عبدالهادي مهودر
أغرب مافي هذه الدنيا أنها لاتصاحب أحداً مهما أحبّها وتعلّق بها وعانى وكابد فيها، وبوصف الساخرين لها فهي قاعة امتحان وما إن ينتهي الوقت المخصص لك حتى تُسحب ورقتك، فركّز في ورقتك ولاتنظر في ورقة غيرك، وبوصف الجادين فإن إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة، كما يقول الإمام علي بن ابي طالب.
وفي مأتم وداع صديق كانت المنطقة المحيطة بمجلس العزاء صاخبة للغاية وضاجة بالحياة رغم الجو الممطر وباعة الخضر والفواكه يتنافسون برفع الأصوات وبعضهم يستعين بمكبرات الصوت في معركة جلب الرزق والصراع من أجل الحياة، ومركبات النقل بين صاعد ونازل عند رأس الشارع، والناس لاهية لاتعير للراحلين والمعزّين اهتماماً وما المرحوم إلا راكب نزل عند محطته الأخيرة، والمهم عند سائقها أن يكون قد دفع الأجرة ونزل، ولم أشاهد منظراً يلخص القصة المضحكة المبكية مثل المقطع الفديوي الذي نشره أحد الأصدقاء في صفحته الشخصية لجنازة رب عائلة تُركت على ظهر سيارة نوع (بيك أب) مغطاة ببطانية مكتوب عليها صباح الخير أمام أحد المطاعم فيما الأبناء والأحفاد والأقارب يتناولون الغداء ووجبة(المندي) وهو ينتظرهم خارج المطعم وحيداً فريداً ، فقد سحبت ورقته ولم يعد له حق الدخول إلى المطاعم !
يا للهول، أو كما يقول صديقي ساخراً، يا للغرفة، فحفلات الوداع بالعراضة العشائرية المتبوعة بالولائم الدسمة تقام في الغالب على مسكين لم يسعفه الأحياء بشراء وصفة دواء، ولاغرابة فالأمر سيان للغني والفقير وللمغمورين وللمشاهير الذين لايأخذون منها إلا صيت الغنى، ويروى عن الأديب الروسي الشهير دوستويفسكي أنه عاش فقيرا ولم يترك له الفقر والديون فسحة يتنفس فيها، وابتلي بأصعب الابتلاءات من فقر اضطره للتسوّل لتوفير لقمة العيش ومن فراق للأحبة وصدود الأقربين والأبعدين وملاحقة السلطات، لكن أكثر من ستين ألف إنسان شاركوا في جنازته وكأنهم اكتشفوا عظيماً لم يكونوا يدركون أنه واحد من أفضل كتاب روسيا والعالم، ومن سخرية الأقدار أن تكون عناوين رواياته الشهيرة عن المساكين والتعساء ثم يلحقها بالإنسان والصرصار والأبله والشياطين والجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف وحلم رجل مضحك، وغيرها من أعمال أدبية كبيرة، وليس هذا وحسب فكل الذين تتغيّر الدنيا بعد رحيلهم عظماء لكننا نفتقر إلى الشجاعة والانصاف في الإقرار بعظمتهم ونبخل بقول كلمة الحق فيهم، وتستمر المآتم هكذا ويعلن العظّامة النفير العام ونأكل المندي ونشرب چاي كوفسكي.