علي لفتة سعيد
ربما يكون سؤال العنوان في منطقة الحفر الثقافي، وربما يكون في منطقة السؤال الذي يحتاج إلى إجابة وافية غير عاطفية. وربما أيضًا تكون الإجابة مليئة بعاطفة ريّانة لا تهتزّ، ولا تنقص، ولا تتردد مع مرور الزمن.
إنَّ أكبر الدروس المستقاة من غيبة الإمام المهدي لا تعني الغيبة المادية بقدر ما تعني الفلسفة القائمة على الغياب والحضور، التواجد والانعتاق، التمدد والاستطالة، الفلسفة والعلم، الأدب والإيمان. بمعنى أنَّ الدرس لا يتعلق بثنائيات متضادة بقدر ما هو ثنائية متصلة يمكن لها أن تتعدد حيث يشاء الفكر، وحيث يُراد للإجابات أن تكون حاضرةً، لافتةً في عاطفيتها وعقلانيتها. لذا، فإن الدرس الذي يعطيه الحضور المستمر هو أن لا انتهاء للعاطفة في التفكير بماديات الواقعة التاريخية، مثلما لا مجال لغلق باب التفكير العقلاني في ماهية الحضور المستقبلي، كونه ركيزة من ركائز الاستمرار بالإيمان المحمدي. سواء كان الغياب جسديًا أو فلسفيًا دينيًا، أو كان الحضور جسديًا، حيث الإعلان عن اللحظة التي تنطلق منها الرؤية من نقطة الغياب العاطفي إلى الالتقاء بنقطة الحضور الجسدي، الذي يمثل كل التاريخ الممتد من لحظة ولادة الإمام أو لحظة وقوع الحادثة التاريخية التي تنبّأ بها الرسول الأعظم (ص) وأهل البيت (ع)، حيث يمتدّ الولوج إلى التفكير من أجل أن تبقى اللحظة متصلةً بين ماهية الإيمان والتشبث به، وبين ماهية الإيمان وديمومته.
والسؤال الذي يتواجد في ملمح التفكير العاطفي، إضافةً إلى السؤال السابق، هو: لماذا أصلًا هذه الثنائية في الحضور والغياب؟
إنَّ الإجابة لا يمكن اختصارها بتفكير عياني، ولا يمكن قبول التفسير العاطفي لها، ولا يمكن لها أن تكون مجرد فرضية أو نظرية مفادها الوجود والاستمرار لبيت النبوّة فحسب، بل هي استمكان للبقاء على جذر الإيمان، رغم تحولات الزمان والمكان، وتغيرات السياسة المقابلة لفلسفة الدين التي ترتبط بالشخوص. فكل شيء قابل للمتغيرات، سواء في الزمن الذي تعيش فيه الفكرة الدينية، أو حين تتحول إلى عقيدة دينية، ومن ثمَّ تشظّي العقيدة إلى عقائد مختلفة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى ضابط يستطيع أن يجعل الإيمان المتوحّد يتجه إلى النقطة المضيئة التي لا تحتاج أو لا تسمح بوجود منطقة ظلٍّ مزاحِمة، كونها تستمد وجودها من وجود الضوء الأصلي والكلي والإشعاع الإسلامي المحمدي.
إنَّ هذه الخلاصة هي التي تدور حولها الأفكار التي جعلت من موضوعة الإمام المهدي ولادةً، ومن ثمَّ غيابًا، ومن ثمَّ رمزًا، لحين التحول إلى ولادة أخرى بالحضور الجسدي والمادي والكلامي، حيث يكون السمع بالأُذُن والرؤية بالأبصار، لا بالتمنيات والأدعية التي تستمر، وهي الخلاصة الكبرى لديمومة الفعل المتصل، الذي يقابل الانهيارات التي تعصف بالأمكنة والأزمنة، والتي تحاول ثلم الصوت الديني وجعله موزّعًا إلى شُعَب وتيارات وملل وأماكن تتصل بالمكان الواحد والزمان الواحد، لكنها تتشعّب بالتفسيرات وتتقلّب بالمواقف.
إنَّ الولادة لا تعني الاحتفاء بالجسد، ولا تعني المضيَّ بالغياب وجعله قدرة على الاستمرار بالدعاء من أجل الظهور فحسب، بل هي مواجهة كل تلك الطعون التي شكّكت بالدين أولًا، ثم بمحاولة توسعة التفسيرات والأقوال الفقهية التي تداخلت من هذه الجهة أو تلك، سواء كانت إسلامية تريد فرض الهيمنة بتكذيب الولادة وتغييبها، وفعلها على أنها يمكن أن تحصل ما بعد الزمان الحالي، أو التي تدعو بقوة إلى تصديق الروايات من أجل البقاء على الفاعلية المواجهة لفاعلية التكذيب، التي قد تنطلق وفق قواعد سياسية في الكثير من الأحيان، أو صراعات الأديان التي خلخلت البُنى الفكرية، وهو الهدف المرسوم، الذي يرى أصحاب التصديق أنه جاء من أجل ثلم الدين، ثم التحوّل بعدها إلى مواجهة العقيدة بالعقيدة.
إنَّ فلسفة الولادة تتعدّى التفكير اللحظوي المرتبط بالإيمان فحسب، رغم أنَّ الإيمان جزء منها وهو الخطوة الكبرى، لكنها خطوة البداية التي تتبعها وتتصل بها الخطوات الكبرى في التفكير، وهي أنَّ دراسة الإمام المهدي هي درس العقلانية في مواجهة التخبط بالتفسيرات التي تتناوش الدين برمّته من قبل أعداء الدين.