محمد صالح صدقيان
أعطی الرئيس الامريكي دونالد ترامب العين الحمراء لجميع الذين كانوا يحبسون انفاسهم للعشرين من يناير الماضي تاريخ دخوله للبيت الابيض؛ لأن الجميع لديهم ملفات مستعصية متوقفة على آلية تعاطي الرئيس الامريكي مع هذه الملفات. منشأ هذا الترقب هو الشخصية الجدلية والمتناقضة للرئيس الجديد في البيت الابيض مما حدا بعديد المتابعين القول إنه من الصعوبة بمكان التكهن بماذا يفكر الرئيس ترامب؟ وماذا يريد أن يفعل؟
نتحدث عن آلية تعاطي الرئيس ترامب مع الملف الايراني بعدما حددت الحكومة الايرانية إبعاد طاولتها استعدادا لمفاوضات أرادت منها أن تنهي العقوبات الاقتصادية، مقابل ازالة القلق عند الجانب الغربي وتحديدا عند الولايات المتحدة. الرئيس الايراني استطاع اقناع المرشد الايراني الامام علي خامنئي بجدوى المفاوضات مع الجانب الامريكي. اتفقا على ان تكون "مباشرة" هذه المرة على خلاف المفاوضات التي حصلت في ولاية الرئيس جو بايدن؛ إضافة إلى قضايا تفصيلية تتعلق بطبيعة تناول المفاوضات والملفات؛ حيث أوضح في 28 يناير الماضي إلى عدم الممانعة في المفاوضات مع الجانب الامريكي لكنه دعا إلى التحقق من الجانب الآخر ومعرفة جديته بالدخول بمفاوضات تستند على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة؛ لكن المرشد الايراني عاد في 7 فبراير للدعوة إلى عدم التفاوض مع الولايات المتحدة ورأى أن مثل هذه المفاوضات "عديمة الحكمة والجدية وغير مشرفة" ؛ الامر الذي انسحب بشكل واضح على موقف الحكومة الايرانية، بعدما وقع الرئيس ترامب على وثيقة تفرض "الضغوط القصوی" على الوضع الاقتصادي الايراني اضافة إلى فرض عقوبات جديدة على شركة ملاحية اجنبية معنية بنقل النفط الايراني للصين.
الرئيس ترامب وفي اطار غموض سلوكه وسياساته مع الملفات الساخنة كان قد أعلن بأنه يريد لقاء الرئيس الايراني مسعود بزشكيان وانه يريد الاحتفال في الشرق الاوسط بالاتفاق مع ايران على ازالة العقوبات لكنه وقع على وثيقة الضغوط القصوى. معلومات غير رسمية تحدثت عن استلام طهران لورقة امريكية غير رسمية تطلب منها العمل بشكل "طوعي" لتفكيك برنامجها النووي ومنظومتها الصاروخية، والسماح لفرق امريكية بمراقبة مراكز ابحاث الفضاء والدراسات النووية والصاروخية في ايران قبل أن يجلس الجانبان على طاولة مفاوضات. هذه المعلومات تقول ان هذه الورقة وصلت طهران بين 28 يناير و 7 فبراير وهو ما دعا المرشد الايراني المطالبة بوقف الجهود الرامية لإنجاز المفاوضات مع واشنطن؛ الذي قال "إن التجربة قد علمتنا إلى عدم التزام الولايات المتحدة بالتزاماتها، حيث قامت بتقويض وانتهاك وتمزيق الاتفاق الذي تم التوقيع عليه" مع حكومة الرئيس الامريكي باراك أوباما.
وفي حقيقة الامر فان المرشد الايراني كان الشخصية الوحيدة في المجتمع الدولي، التي وقفت امام تصريحات الرئيس ترامب وسلوكه بعدما دخل للبيت الابيض، عندما توعد الولايات المتحدة بإجراءات رد إذا ما تعرّضت لإيران أو نفّذت تهديداتها لها وقال "إذا ما هدّدونا، سنهدّدهم. وإذا ما نفّذوا وعيدهم، سننفّذ وعيدنا. وإذا ما مسّوا بأمن أمّتنا، سنمسّ بأمنهم بلا تردّد".
هذه التطورات دفعت الحكومة الإيرانية إلى إيقاف جهودها لمتابعة المفاوضات المحتملة لاقية اللوم على سلوك الرئيس ترامب التي دفعت النظام السياسي الايراني يبتعد عن فكرة الدخول بمفاوضات مع واشنطن وابقائها مع الجانب الاوربي الذي أبدى حماسا لذلك من خلال جولتين من المباحثات اجراها الجانبان. ويسود الاعتقاد ان الرئيس الامريكي يسعى لفتح باب المفاوضات تحت "ضغوط قصوى" يفرضها على ايران لابتزاز موقفها ودفعها لتقديم المزيد من التنازلات على خلفية الاثار الناجمة عن العقوبات الاقتصادية ؛ لكن طهران التي تعتقد بانها تستطيع تجاوز هذه العقوبات من خلال انفتاحها على روسيا والصين وبقية الدول الاسيوية اضافة إلى دول منظمة بريكس وشنعهاي وبقية المنظمات الاسيوية ؛ تجعل من الصعب التكهن بفعالية الخطط التي يضعها الرئيس ترامب. وتعتقد بعض الاوساط ان مثل هذه الحالة ستمكن الرئيس ترامب إعطاء الضوء الاخضر للكيان الاسرائيلي التي تحكمه مجموعة يمينية متطرفة غايتها ضرب المنشآت النووية؛ لكن الواقع والتجارب السابقة تثبت ان مثل هذا السيناريو بعيد المنال لسببين ؛ الاول ان الكيان الاسرائيلي بعد وقف اطلاق النار في غزة لم يكن كما كان قبل السابع من اكتوبر 2023 ؛ وان الولايات المتحدة وتحديدا الرئيس ترامب الذي قال انه يريد ان ينهي الحروب غيرة مستعدة لبذل المزيد من الكلف المالية والعسكرية والامنية من اجل ارضاء نتنياهو وبقية المتشددين الموجودين على لائحة محكمة الجنايات الدولية. وإن اعطاء قنابل و اسلحة جديدة للكيان الاسرائيلي لا يعني بالضرورة الموافقة على استخدامها ضد ايران. السبب الثاني ان الولايات المتحدة تعلم جيدا وقالها لنتنياهو في البيت الابيض ان ايران لم تكن بذلك الضعف الذي تستطيع استيعاب اي هجوم اسرائيلي دون ان ترد ؛ خصوصا هي تتحدث عن الاعلان عن صواريخ فرط صوتي على مدى الفي كيلومتر؛ هذا اذا ما استبعدنا قرار ايران الرامي إلى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي في اي تهديد جدي تتعرض له المنشآت النووية.
تبقى آلية "سناب شات" التي تريد الولايات المتحدة الضغط على الترويكا الاوروبية لاستخدامها في مجلس الامن الدولي من اجل عودة اتوماتيكية لستة قرارات دولية ضد ايران بما في ذلك العودة للفصل السابع استنادا على القرار الاممي 2231 الصادر عن مجلس الامن الدولي. مثل هذه الخطة قالت ايران بانها اذا حدثت فإنها ستنسحب من معاهدة حظر الانتشار النووي ايضا؛ وبالتالي فان الولايات المتحدة واسرائيل يعلمان جيدا خطورة مثل هذه الخطوة على ضوء الاتفاقية الجديدة التي وقعتها ايران مع روسيا والتي تشمل مجالات تعاون متعددة. إن بعض الأوساط تحاول تسويق صورة غير واقعية عن ضعف إيران بعد تطورات سوريا ولبنان لكن الحقيقة ان امكانات ايران غير قليلة وانها غير متعودة على رفع الراية البيضاء و"المبلل لا يخاف من المطر" على قول العراقيين.