أسماء نجم عبد الله
يُعد النقل البحري العمود الفقري للتجارة العالمية، حيث تعتمد الاقتصادات الكبرى والناشئة على شبكات الشحن والموانئ ونقاط الاختناق البحرية لضمان تدفق السلع والموارد عبر القارات.
وتشكل الممرات البحرية الاستراتيجية، مثل قناة السويس ومضيق هرمز وقناة بنما، مسارات حيوية تمر عبرها نسبة كبيرة من التجارة الدولية، ما يجعلها عرضة للتحديات الجيوسياسية والاقتصادية والمناخية التي تؤثر على استقرار التجارة البحرية. إن أي اضطراب في هذه النقاط، سواء كان بسبب نزاعات سياسية أو كوارث طبيعية أو تحديات تشغيلية، يؤدي إلى تداعيات خطيرة على سلاسل التوريد وأسعار السلع والطاقة، ما ينعكس على الاقتصادات الوطنية، لا سيما الدول التي تعتمد على الصادرات النفطية مثل العراق. إن أزمة إغلاق قناة السويس عام 2021 نتيجة تعطل سفينة "إيفر جيفن" قدمت مثالاً حياً على هشاشة حركة الملاحة البحرية وتأثير ذلك على الاقتصاد العالمي، حيث أدت الحادثة إلى خسائر بمليارات الدولارات وتعطل سلاسل الإمداد لشهور طويلة. كما أن التوترات المستمرة في البحر الأحمر وقناة السويس، التي تصاعدت مع الهجمات الحوثية على السفن التجارية منذ أواخر عام 2023، فرضت تحديات إضافية على حركة التجارة البحرية العالمية، ما دفع العديد من الشركات إلى تغيير مسارات الشحن والبحث عن طرق بديلة، وهو ما أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل والتأمين وزيادة الضغوط على الاقتصاد العالمي.
وبالنسبة للعراق، الذي يعتمد بشكل شبه كلي على صادراته النفطية عبر الخليج العربي، فإن أي اضطراب في مضيق هرمز أو البحر الأحمر يضع اقتصاده تحت ضغط هائل. فعدم استقرار الملاحة في هذه النقاط يؤدي إلى تأخير عمليات التصدير وزيادة تكاليف الشحن والتأمين، ما يؤثر سلباً في العائدات المالية للدولة، ويزيد من هشاشة الوضع الاقتصادي. وعلى الرغم من ذلك، يفتقر العراق إلى استراتيجية بحرية وطنية متكاملة قادرة على التعامل مع هذه التحديات، سواء من حيث تطوير بدائل لوجستية أو تعزيز السياسات البحرية أو تحديث التشريعات المتعلقة بالنقل البحري. الإطار القانوني العراقي، المتمثل في قانون النقل البحري رقم (57) لسنة 1979 وقانون الموانئ رقم (21) لسنة 1995، لم يشهد تعديلات جوهرية تواكب التطورات العالمية في قطاع النقل البحري. كما أن التشريعات الحالية لا توفر حلولاً كافية للتعامل مع القضايا البيئية والتغيرات المناخية، مثل التزام العراق بخفض الانبعاثات الكربونية وفقاً لاتفاقية ماربول (MARPOL) التابعة للمنظمة البحرية الدولية (IMO). ويعاني العراق أيضاً من غياب هيئة بحرية مستقلة تُعنى بوضع السياسات البحرية والإشراف على تطبيق المعايير الدولية، وهو ما يجعله غير قادر على التأثير في القرارات البحرية العالمية أو الاستفادة من التطورات التشريعية الحديثة. في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية في مضيق هرمز والبحر الأحمر، يواجه العراق تهديداً مباشراً على أمنه الاقتصادي، ما يستدعي التفكير في حلول استراتيجية، مثل تنويع مسارات التصدير عبر تطوير خطوط أنابيب بديلة تربط العراق بتركيا أو الأردن، وتقليل الاعتماد الكامل على الموانئ الجنوبية. كما يمكن تعزيز التعاون الإقليمي مع دول مجلس التعاون الخليجي لإنشاء آليات مشتركة لحماية السفن التجارية، خاصة في ظل استمرار التوترات الأمنية في الخليج العربي. ولا تقتصر التحديات على الجانب الأمني فقط، بل تشمل أيضاً المتطلبات البيئية الجديدة في قطاع النقل البحري، حيث يواجه العالم تحولاً كبيراً نحو تقليل الانبعاثات الكربونية، مما يتطلب تحديث أساطيل الشحن واستخدام تقنيات حديثة تتماشى مع المعايير البيئية. ورغم أن العراق ملتزم بعدد من الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) واتفاقيات المنظمة البحرية الدولية، إلا أنه لم يحقق تقدماً ملموساً في تبني استراتيجيات وطنية لتطوير البنية التحتية البحرية وفقاً لهذه المعايير. من جانب آخر، فإن تطوير ميناء الفاو الكبير يمكن أن يمثل نقطة تحول في مستقبل النقل البحري العراقي، حيث يمكن أن يجعله مركزاً لوجستياً إقليمياً يربط آسيا بأوروبا عبر العراق، مما يقلل من اعتماده على موانئ الدول المجاورة. ولكن لتحقيق هذا الهدف، لا بد من تبني تقنيات "الموانئ الذكية"، التي تعتمد على الرقمنة والذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءة عمليات الشحن والتفريغ، وتقليل الفاقد في الوقت والتكاليف التشغيلية. ويعد تعزيز الدبلوماسية البحرية العراقية أمراً ضرورياً لمواكبة هذه التغيرات، حيث ينبغي للعراق أن يلعب دوراً أكثر فاعلية في المنظمات البحرية الدولية، مثل المنظمة البحرية الدولية (IMO) والمجلس البحري العربي، لضمان حماية مصالحه في رسم السياسات البحرية العالمية. كما أن الانضمام إلى اتفاقيات دولية جديدة، مثل اتفاقية حماية السفن في المياه الإقليمية (SUA) واتفاقية العمل البحري (MLC)، يمكن أن يوفر للعراق مزيداً من الحماية القانونية لسفنه التجارية والعاملين في قطاع النقل البحري. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للعراق تحقيق تكامل اقتصادي بين موانئه والمناطق الحرة، ما يعزز من قدرته على المنافسة في السوق الإقليمية، خاصة إذا ما تم ربط ميناء الفاو بمراكز صناعية ولوجستية متطورة توفر قيمة مضافة للبضائع العابرة. فهذا التكامل يمكن أن يجذب الاستثمارات الأجنبية، ويجعل العراق محطة رئيسة في سلاسل التوريد العالمية، بدلاً من أن يظل مجرد نقطة عبور للنفط الخام.