الحياة عندما تكون كِتَاباً

ثقافة 2019/07/06
...

هدية حسين
ثماني قصص تحتويها المجموعة القصصية المعنونة “كتاب الحياة” للقاص عبد الأمير المجر، الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وبـ 118 صفحة من القطع المتوسط.
تبدأ المجموعة بقصة “العراة” التي تلتقي من الناحية الفكرية برواية البرتغالي جوزيه ساراماجو، تلك الرواية التي تتحدث عن مرض يؤدي الى العمى، يصيب المجتمع كله بعد أن يبدأ فردياً، وكنتيجة لذلك يحدث الاقتتال من قبل اللصوص لسرقة كلّ شيء، وفي هذه الرواية لا يقصد ساراماجو العمى كمرض عضوي وإنما العمى الفكري حينما يسود الجهل وتعم الفوضى ويكثر اللصوص.
في قصة “العراة” يصحو بطل القصة من نومه في أحد الفنادق فيجد نفسه عارياً تماماً، وممدداً على سرير تعرّى هو الآخر من جميع أغطيته، وحين التفت الى زوايا الغرفة وجدها عارية من جميع محتوياتها، وهو لا يستطيع الاتصال بإدارة الفندق لأن التلفون اختفى مع الأشياء التي اختفت، وتذكّر أنه حين دخل المدينة سمع لغطاً يقول بأن لصوصاً ملثمين دخلوا المدينة وتسربوا في أزقتها ولم يعثر عليهم، يحاول البطل أن يخرج بحذر ويطل برأسه من باب الغرفة الى الممر فلا يرى ولا يسمع شيئاً، كأن غرف الفندق مجرد قبور ساكنة، فيشعر بالخوف ويطلق صرخة مدوية تجعل ساكني الغرف يطلون برؤوسهم من دون أن تظهر أجسادهم، ويتبيّن أن جميعهم عراة مثله، فيضطرون للخروج والسير بالممر حتى الوصول الى الإدارة، وتكون المفاجأة أن جميع الموظفين وكذلك المدير، عراة، وعندما يستطلعون الأمر في الشارع يكتشفون أن الناس هناك عراة مثلهم، بل إن الشعب كله عارٍ، وهناك إعلان يدعو الناس الى التعرف على اللصوص، لكن من دون أن تظهر صور اللصوص الحقيقية الا ان البعض وبناءً على الأقاويل رسم صوراً تقريبية وبذلك صار الناس يمسكون بكل من له شبه بهذه الصور فعمت الفوضى، ترى من سرق الجميع من دون أن يعلم أحد؟ 
أخيراً ظهر الرئيس في ساحة المدينة، وكان يرتدي ملابس البطل التي فقدها في الليلة الفائتة، فصرخ وسط الحشود الهائجة بأنها ملابسه، في حين كان آخرون يصرخون أيضاً بأن الرئيس يرتدي ملابسه، وهكذا هجم الجميع، وكلما انتزعت ملابس هذا، ظهرت ملابس تحتها لذاك، فأصبح الرئيس عارياً، ولم يبق من بين الحشد سوى القليل وهم عراة، وكل واحد من الذين ارتدوا ملابسهم يمسك برجل عارٍ ويقول بأنه يشبه صورة من بين صور اللصوص، وكانت آخر صورة تشبه الرئيس، ويبقى المشهد الأخير حيث الرئيس يتقدم العراة ويسير الجمع العاري كالقطيع، وخلفهم الجموع الغاضبة التي استردت أشياءها المسروقة.. أتفق تماماً مع الناقد يوسف عبود جويعد في مقالته المنشورة في جريدة الصباح الجديد بتاريخ ديسمبر 2018 بضرورة حذف الأسطر الخمسة الأخيرة من القصة، التي أدخل المؤلف فيها نفسه بوصفه شاهداً على هذه الأحداث ليكتب عنها قصة، إذ أن القصة مكتفية بنهايتها.
مقولة الفيلسوف الألماني غوته (أعمق موضوع في تاريخ الإنسان هو صراع الشك باليقين) جاءت تحت عنوان (كتاب الحياة) هل ثمة كتاب يختصر كل ما جاءت به الفلسفة؟ إنه كتاب الحياة الذي أهداه صديق البطل إليه حاثاً إياه على قراءته، وحين انتهى من القراء لم يفهم منه شيئاً، فالحياة أوسع وأعمق من أن يفهمها إنسان محدد بعمر قصير لا يلبث أن يغادر الدنيا، وبعد الانتهاء من القراءة نام نوماً قلقاً وكابوسياً، وحين استيقظ عند الصباح رن هاتفه فجاء صوت غريب ليقول له: هل قرأت خبر إعدامك؟ 
الموت لا يشغل بطل القصة، ما يشغله هو ما يحدث بعد الموت، وهذا الأمر يذكره بطفولته، وذلك الرجل المسن الذي كان يتفنن بالحديث عن عذاب القبر والجحيم وكيف تشوى أجساد العاصين من غير ديننا؟، وعندما كبر سمع الكلام نفسه من الطلبة الذين معه، وهم على غير دينه، الى هذا الحد تبدو القصة واقعية، لكن ما سيأتي بعد ذلك من الغرائب هو ما يقودنا إليه عبد الأمير المجر وبطله الذي أصبح معلماً في قرية نائية، يقطع الطريق بسيارته مستمتعاً بما يراه من مناظر طبيعية، وعند الصباح الذي انتهى ليله بكابوس بعد قراءة كتاب الحياة، تغيرت أحوال المعلم فلم يجد مدرسته، بل وجد بناية أخرى، في غرفة الإدارة رجل غريب كأنه قادم من السماء، بادره بسؤال: هل اتصلوا بك هذا اليوم؟ كيف لا يخاف وهو الذي كانوا يطلقون عليه منذ الصغر الخوّاف؟ 
وسيعطيه كتاباً يحمل العنوان نفسه (كتاب الحياة) ويوزع نسخاً منها على المعلمين الذين لا تشبه ملامحهم ملامح زملائه السابقين، وستكون جميع صفحات الكتاب فارغة ليملؤها كل واحد بأسئلته وما مر به في رحلة الحياة بلغته الخاصة، سنمضي مع أحداث هذه القصة العجائبية المشوقة والزاخرة بالأحداث والاسترجاعات والخيال وفلسفة الحياة والموت لينبثق السؤال الأزلي: إذا كانت الحياة تنتهي بالموت فما الجدوى إذن؟
وبين الواقعي والمتخيل تمضي بنا القصة التي تترك لدى القارئ الكثير من الأسئلة والحيرة معاً. 
عالم عبد الأمير المجر زاخر بالحكايات، لا يركن الى الواقع فيلعب في المنطقة الفاصلة بين الواقع والفنتازيا والخيال العلمي، يذهب الى عوالم شخصياته المأزومة فيعرضها دونما حلول، تاركاً مساحة للقارئ كي ما يكون مشاركاً، يورطه في اللعبة بطريقة ذكية، يأخذه من المعقول الى اللامعقول، تبدأ الأشياء بسيطة ومنسابة وقريبة جداً من اليقين حتى يفاجئك بتخلخل الشخصية وذهابها الى منطقة 
الشك.