بين معادلات الهيمنة واستباحة القيم

آراء 2025/02/18
...

 أحمد حسن


"التاريخ هو صراع مستمر بين القوة والحق، لكن المأساة تبدأ حينما تصبح القوة هي الحق ذاته".

— أنطونيو غرامشي

لطالما كان ولا يزال الشرق الأوسط ساحةً للصراعات الكبرى، حيث تتقاطع مصالح القوى الدولية العظمى، وتتجسد المواجهة بين الهيمنة والمقاومة في كل مرحلة من تاريخه. إلا أن ما نشهده اليوم، في ظل السياسات الراديكالية التي تبنّاها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يتجاوز مجرد الصراعات التقليدية، ليكشف عن تحول النظام الدولي إلى سوق مفتوحة للمساومات، حيث تُباع الأرض والتاريخ، وتُفكك القيم الأخلاقية التي شكّلت دعائم النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم تعد المسألة مجرد قرارات براغماتية أو ممارسات استبدادية، بل باتت إعادة إنتاج لعقلية استعمارية ترى في العالم العربي والإسلامي ساحةً مشرعة لنهب الموارد وإعادة رسم الخرائط وفق مشروع طويل الأمد، يهدف إلى جعل الهيمنة حالةً دائمة.

مثّلت إدارة ترامب تجليًا صارخًا لنزعة سلطوية تمزج بين القومية المتطرفة والاستبداد النيوليبرالي، حيث تعامل مع البيت الأبيض كما تُدار الشركات الكبرى، دون أي اعتبار للقانون الدولي أو المبادئ التي طالما ادّعت الولايات المتحدة الدفاع عنها. فمن قراراته المثيرة للجدل، محاولاته الاستحواذ على أراضٍ مثل غرينلاند وقناة بنما، وتعاملُه المشين مع دول الجوار كالمكسيك وكولومبيا، إلى انسحابه من الاتفاقيات الدولية وفرضه العقوبات الاقتصادية، وصولًا إلى تبنّيه مشاريع تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من أرضهم وتحويل غزة إلى ما يشبه "منتجعًا أمريكيًا". لم يكن سلوكه سوى تعبير عن نهجٍ يرى في السياسة الدولية مجالًا مفتوحًا للصفقات والابتزاز.

أما نتنياهو، فقد استغلّ هذا المناخ لتعزيز مشروعه التوسعي، مستفيدًا من الدعم الأمريكي غير المشروط، فدفع بسياساتٍ لم يكن ليجرؤ على تنفيذها في ظل إدارات أمريكية سابقة، بدءًا بتسريع وتيرة الاستيطان، وانتهاءً بالسعي للاستحواذ على مزيد من الأراضي السورية، مستندًا إلى منطق القوة وسط حالة الانقسام العربي العميق.

وعندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لمجرد فتحها تحقيقًا في جرائم الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، لم يكن ذلك مجرد تحدٍّ لمؤسسة قضائية، بل إعلانًا صريحًا بأن القانون الدولي لم يعد في حسابات إدارة ترامب. لقد شكّل هذا النهج انقلابًا على المبادئ التي تأسس عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث داس ترامب ونتنياهو على تضحيات عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين، الذين فقدوا حياتهم على شواطئ النورماندي عام 1944 دفاعًا عن العدالة في مواجهة النازية. إن السماح لرئيس أمريكي بإعادة إنتاج سياسات قائمة على التمييز والعنصرية لا يمكن فهمه إلا في سياق استمرار إرثٍ أيديولوجي يرى في التفوق والاستبداد نهجًا مشروعًا لإدارة العالم.

"الاستبداد الحديث لا يحتاج إلى سجون، بل إلى عقول مستعبدة تقبل الهيمنة وكأنها قدر محتوم".

— ميشيل فوكو

إن صورة المبعوثة الأمريكية التي ظهرت في الأراضي اللبنانية مرتدية نجمة داوود، شاكرةً إسرائيل على جرائمها في تفجير البيجر الذي راح ضحيته الآلاف من اللبنانيين، وهي ترفع صورة للصواريخ بابتسامة عريضة وسط الخراب الذي طال اللبنانيين، لم تكن مجرد سلوك فردي، بل انعكاس لمعادلة القوة الضاربة التي تريد واشنطن والكيان الغاصب لها فرضها في الشرق الأوسط. لم يعد الأمر مجرد تحالف سياسي، بل استعمار جديد، يحاول إخضاع المنطقة من خلال أدوات اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية، بهدف تحويل الشرق الأوسط إلى سلعة يمكن عرضها في مزادات القرارات الدولية، وإعادة تقسيمه وفق مصالح ضيقة.

في هذا المشهد العبثي، لا تبدو المشكلة في ترامب أو نتنياهو وحدهما، بل في غياب رد فعل حقيقي من داخل الولايات المتحدة نفسها. أين تلك الجمعيات والمنظمات الأمريكية التي لطالما رفعت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أين الأمم المتحدة التي تأسست لمنع تكرار الفظائع التي شهدها العالم في النصف الأول من القرن العشرين؟ إن الصمت المطبق، والتواطؤ غير المعلن، يجعلان من هذه المؤسسات مجرد ديكور دبلوماسي، يُستدعى عند الحاجة، ويُهمل حينما تتطلب المصالح ذلك.

أما في الشرق الأوسط، فلا غرابة أن تجد الأنظمة الحاكمة في حالة من الاستسلام، فهي في أصل نشأتها كانت صنيعة الاستعمار البريطاني والفرنسي، ولم تكن يومًا معبرة عن إرادة شعوبها. ومع ذلك، فإن المنطقة التي أنجبت سومر وبابل وآشور، والتي شهدت أعظم الحضارات الإنسانية، تملك من العمق التاريخي والرصيد الثقافي ما يجعلها قادرة على النهوض، إن امتلكت إرادة الوحدة والاحترام المتبادل بين مكوناتها.


"المعركة الحقيقية ليست بين الشرق والغرب، ولا بين الإسلام والحداثة، بل بين الاستبداد والحرية، بين الجهل والمعرفة".

— إدوارد سعيد

إن التفكك الداخلي والاحتراب الطائفي، اللذين عززتهما التدخلات الخارجية، لن يكونا مدخلًا للاستقرار، بل بوابة لمزيد من الفوضى والتقسيم، ما لم يتم استيعاب أن أي نهضة حقيقية يجب أن تقوم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مع احترام التاريخ الحضاري لهذه المنطقة.

لم يكن الإسكندر المقدوني، ولا هولاكو، ولا كورش، ولا الحجاج، ولا العثمانيون، وصولًا إلى البريطانيين والفرنسيين حينما اجتاحوا هذه الجغرافيا، قادرين على محو هويتها بالكامل؛ بل كانت الحضارات تنهض من جديد، بعد كل غزو، أكثر قوةً وصلابة. لكن اليوم، ومع أدوات السيطرة الحديثة التي تمزج بين الاقتصاد والتكنولوجيا والإعلام، لم تعد الهيمنة تتخذ شكل الاحتلال التقليدي، بل تحولت إلى استعمار ناعم، يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويفرض تبعيةً اقتصاديةً وسياسيةً وثقافيةً تجعل الهيمنة حالةً مستدامة.

إن الشرق الأوسط، الذي كان في الماضي قلب العالم، بات اليوم ميدانًا مفتوحًا لتصفية الحسابات وتحقيق مصالح القوى الكبرى، لكن ذلك لا يعني أن هذه المعادلة حتمية. فإرادة التغيير، حينما تتوفر، قادرة على قلب موازين القوى، كما حدث في العديد من المحطات التاريخية. والتحدي الحقيقي لا يكمن فقط في مواجهة ترامب ونتنياهو، بل في قدرة شعوب هذه المنطقة على فرض إرادتها واستعادة زمام المبادرة، قبل أن يتحول التاريخ إلى مجرد صفحات تُكتب بأيدي الغزاة.

 "لا حرية لشعب يجهل أنه غير حر".

— جان جاك روسو