الانتفاضة الشعبانيَّة.. صفحةٌ خالدةٌ من تاريخ العراق

آراء 2025/02/18
...

 د. صادق كاظم


كان نظام البعث مهووسا بالحروب ومصدقا لمقولة زائفة انه اقوى نظام في المنطقة رغم خروجه منهكا من حرب لا مبرر لها مع الجارة إيران وبخسائر بشرية ومادية باهظة. كان لدى النظام فائض كبير من القوة العسكرية، التي لم يحسن التصرف بها وبدلا من ان يفكر في انعاش العراق اقتصاديا وطي صفحة الحروب الماساوية والتفكير في ادخال العراق في خرائط التطور واستثمار الموارد البشرية والمادية الضخمة المتوفرة لديه، حيث كان العالم ومع بداية العقد التسعيني من القرن الماضي، يعيش بداية تحولات اقتصادية جديدة لم تعد معها حسابات الجيوش والقوى العسكرية، هي المعيار في تحديد انماط القوة والتطور لدى الدول أدخل البلاد في نفق مظلم من حرب جديدة كان الجميع رافضا لها. استغل النظام هذا الفائض من القوة العسكرية ليفجر أزمة مفتعلة مع الكويت، عندما اتهم الجارة الصغيرة التي تقع في اقصى الجنوب بأنها تسرق النفط منه وأنها لا تلتزم بمعايير الإنتاج النفطي وتتسبب في هبوط الأسعار، رغم ان ازمة اسعار البترول كانت عالمية ولم تكن لدى الدول المنتجة القدرة على السيطرة عليها وأن هذه الاسعار تحددها موازين العرض والطلب. اتخذ النظام قرار الغزو الكارثي ومندفعا وراء جنونه واوهامه وغبائه الذي ألحق كوارث كبيرة بالمنطقة. رفض النظام برعونته جميع عروض السلام، التي قدمت اليه مراهنا على خوف واشنطن من محاربته ورفض عربي وعالمي للحرب، لكن ذلك لم يتحقق، حين هجم الحلفاء في أوسع معركة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث دمر العراق ولم يسلم شبرٌ منه من عمليات القصف. الشعب العراقي الذي تحمل جنون الطاغية وأوهامه وأمراضه وجد في انكسار النظام وهزيمة جيوشه الفرصة للانتفاضة عليه واسقاط نظام حكمه، حيث جرى كل شيء بعفوية، وذلك عندما قرر جندي منكسر عائد من الحرب بأن الطاغية الذي عبث بكل شيء وجازف بمصير البلاد وشعبها يجب أن يرحل، حيث أطلق النار من رشاش الدبابة التي كان يقودها على جدارية تحمل صورة الطاغية. تحرك الجميع ومن كل مكان وسارعوا للتجمع والانطلاق لإعلان الثورة والانتفاضة على النظام، إذ انضم الجنود إلى المواطنين وقاموا بمهاجمة مراكز وأوكار النظام الأمنية والقمعية لينهار كل شيء بسرعة. أدرك النظام أن التباطؤ وعدم رد الفعل السريع سيؤديان إلى كارثة السقوط، فقبل بكل شروط الحلفاء بوقف إطلاق النار وتوسل إلى قوات التحالف أن تسمح لجيوشه المحاصرة في الجنوب بالانطلاق لتدمير المدن الثائرة والمنتفضة والقضاء على الثوار، الذين باتوا على ابواب العاصمة وعلى مقربة منها. وزع الطاغية المجرمين من اعوانه من اصحاب المهمات القذرة بين المناطق الثائرة، حيث مورست أعمال الابادة الجماعية بحق السكان الذين جمعوا من البيوت والشوارع ليتم اتهامهم بالتآمر على النظام ومن ثم اعدامهم ودفنهم في الصحراء في مقابر جماعية ضخمة. كان الانتقام جماعيا ولم يسلم أي شيء من القصف حتى المراقد والأضرحة المقدسة، تم قصفها بالسلاح الصاروخي المدمر وتم اقتحامها وقتل اللائذين بها وذبحهم من دون رحمة من نساء واطفال وشيوخ مسنين. قاتل الثوار ببسالة وشجاعة، لكن نقص التنظيم والامداد حال دون اكمال تقدمهم، اضافة إلى الممانعة الإقليمية والدولية، التي كانت تخشى من سقوط النظام رغم ان هذا التغيير يمثل إرادة واجماعا وطنيا وشعبيا بضرورة التغيير، بعد أن أصبح وجوده خطرا على شعب العراق وعلى دول المنطقة ايضا ولم يعد نظاما صالحا للحكم. كانت الانتفاضة الشعبانية ربيعا عراقيا مبكرا، سبق ما حصل لدول المنطقة بعشرين عاما وجسد إرادة شعب حر تحدى ابشع واقسى نظام دكتاتوري مستبد مقدما أغلى التضحيات، ورغم أن الثمن كان باهظا من حيث العدد المرتفع من الشهداء، إلا أنه مهد الطريق لسقوط النظام لاحقا وإزالته، مخلفا وراءه أبشع الانجازات الدموية التي تكلل تاريخه بالعار.