وارد بدر السالم
في كلاسيكيات الكتابة، وفي التاريخ الأدبي لها، يتقدم ما تمت تسميته بـ المضمون على الشكل نقديَّاً وذوقيَّاً. حتى باتت الأشكال السرديَّة متشابهة، لا تخرج عن إطار الواقع، بل تصرُّ على أن تتفاعل معه وتستقدمه فوتوغرافيَّاً. مثلما تكرّرت المضامين بهذه الطريقة أو تلك بخلفيَّة واقعيَّة. وكانت المجتمعات الواقعيَّة هي حواضن السرديات التي شكلت مواجهات طويلة مع أبنية الرواية والقصة القصيرة. بمعنى أن القارئ كان يقرأ ما يُسمى بـ المضمون، فالمؤلفون كانوا بعيدين عن فكرة الشكل في تجاربهم السرديَّة بشكل عام.
(1)
الواقعيَّة؛ وإن كانت مدرسة تأسيسيَّة مهمة؛ لكنها خفتت بالتدريج مع شيوع مدارس أدبيَّة ومنهجيات نقديَّة، وقرّاء يستقدمهم التطور المعرفي والعلوم الإنسانيّة في الكثير من الفنون الجماليَّة، ومن ثمَّ مكتشفات العلم واختراعاته، فأعيدت صياغة المضامين بطريقة ثانية، يتقدمها الشكل- اللا شكل على حساب ما تمت تسميته بـ المضمون. وهذا ما أعاد فكرة أن يكون اللا الشكل هو الرؤية النقديَّة التي يُفهم منها بأنَّ نقاد الحداثة وما بعدها يولونها اهتماماً رئيساً في مطالعات النصوص السرديَّة لا سيما الرواية.
(2)
في السرد الروائي والقصصي والمسرحي نواجه شخصيات اجتماعية كثيرة، ومن الطبيعي أن تكون نسبة الخيال فيها ضعيفة، لا سيما تلك التي تمثل مجتمعات محليَّة صغيرة ببيئة متشابهة ومناخ نفسي لا يتقاطع كثيراً، ولكن ما يوطّد صلتها بالسرد؛ هو الخيال السردي الذي يتوسّع في رسم الشخصيات وتشخيصها بعلامات معينة، اسمية أو وصفية في ظرفها السردي لا الواقعي، وإضفاء مسوحات متعددة على هيآتها في الوصف الباطني والروحي وعلاقتها بالأنساق الاجتماعية الأخرى وأهيمتها الفاعلة في الأمكنة التي تشغلها واقعيّاً.
هذا يحتاجُ الى تدريب كتابي يتضاعف الخيال فيه، وخبرة نفسية- زمنية- مكانية- تاريخية في تقديمها الى القارئ، وثقافة عالية في رسم الشخصيات بأدائها السردي المقنع من دون أن تقفز على الواقع كثيراً، وتتمرّد على السرد فتصبح نشازاً مضمونيَّاً وشكليَّاً. لا بوصفها آلة يحركها السرد الى مضامين مُخطط لها، بل تحركها وقائع السرد في ميادينها الاجتماعية أو السياسية أو السيكولوجية والأسطوريَّة والخرافيَّة وما تحمله من مبادئ وقناعات شخصيَّة. لذلك نرى في روايات ماركيز محليَّة صارمة محكومة بخرافاتها وأساطيرها ومدوّناتها القديمة وشخصياتها الفاعلة في النمو السردي، كأنْ يطير بعضها متجاوزاً واقعيته على وفق قانون السرد العجائبي الذي ابتكره ماركيز. أي أنّه يُحكم مسارات الكتابة على وفق هذه الرؤية المنفلتة عن أنظمة السرد الكلاسيكية، وهذا الإجراء الفني ساعده كثيراً على تخطي مسؤولياته أمام واقع ذي وقائع متعددة وشائكة، وهو يستدعي معطيات الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية بطريقة استثنائية.
من هذا الاستثناء خلق ماركيز ومعه أدباء أمريكا اللاتينية عوالمهم السرديَّة المثيرة، عندما جعلوا الخيال يتلاقح بالواقع بطريقة باهرة وسحريَّة: ايزابيل الليندي. يوسا في الكثير من أعمالهما الروائيَّة التي تجاوزت منطق الواقع. كما نرى أيضاً بأنّ السرود الأفريقية واليابانية درست الشخصيات الروائية من هذه الأبواب التي تضيق وتتسع من مكان الى آخر. كما عند هاروكي موراكامي وتشينوا أتشيبي وغيرهم ممن تعاملوا مع اللا شكل بوصفه حاضنة مضمونيَّة.
(3)
المعنى المترشّح من هذا أنَّ الساردين العالميين درسوا الفئات المجتمعيَّة المختلفة، ليس بعيداً عن واقعها الذي كوّنها وحملت تراثه وإرثه الشخصي وتاريخه متعدد الطبقات، وآلياته المستمرة في وجوده، ومن ثمَّ فإنَّ الشخصيات الروائيَّة لا تنفصل عن تلك المجتمعات، إلا بمقدار الفن والشكل الجديد - اللا شكل الذي يبرع به كاتبو السرد ومؤلفو الروايات العملاقة. ومن هنا فنقاد الحداثة وجدوا بأنَّ الشكل الروائي هو الذي يمكن الاحتكام اليه نقديَّاً، فالمضامين تتشابه في كثيرٍ من الأحيان، غير أنَّ الأشكال هي التي تصنع سرديات جديدة، لا سيما بانفتاح العالم على بعضه عبر إلكترونيات القرن الحادي والعشرين، وما تركته من آثار جماليَّة على المجتمعات العالميَّة، وفنية لو شئنا الدقة في التعامل الجمالي معها. لذلك نجد أن كتّاب العالم لهم أسبقية الوصول الى الشكل الروائي المستحدث من تضاعيف المجتمعات وسلوكها البيني، مثلما نجد أنَّ "قراءة" الإنسان في تجلياته ومعطياته المختلفة والمتعددة، أضحت بمتناول الكتابة؛ لا لأنَّ شفرات الإنسان صارت مكشوفة بهذا الوضوح، بل لأنَّ المجتمعات أفرزت نتائجَ ومعطيات كثيرة في سهولة التقصي السلوكي لأفرادها، ومن ثمَّ فالشكل الروائي تمكّن الى حدٍّ جيد من استيعاب تلك الشخصيات بمضامينها المتغيرة على وفق متغيرات الواقع الكثيرة.
(4)
رسْم الشخصيات السرديَّة يتطلب التنبيه الى طاقاتها السلبيَّة والإيجابيَّة، في محاولة رصد السلوكيات التي تفرزها فواعل خارجية وداخلية. أي أنّ المؤلف الذي يوصَف بأسماء متعددة - حسب النقد- فهو الراوي العليم، وبتفريعات التسميات: الراوي الظاهر. الباطن. المشارك. الخارجي. الداخلي.. وسواها من التسميات النقديَّة التي تُلزم المتلقي بقبول المشاركة على تعدديتها. لكن في الحالات كلها يُلزمنا الاعتراف بأنَّ كلَّ التسميات المتاحة وغير المتاحة تتيح لنا القول أن صفة (المؤلف) هي الأقرب للواقع التأليفي السردي. فهو العارف. الباطن. الظاهر. المشارك. العليم. الأول. لذلك فإنّ مسميات المؤلف هي مسميات نقديَّة على الأرجح. ومنها يُستشفُّ المعنى النقدي الحداثي في معطياته التنظيريَّة المتوالية، وهو يُعالج شكل اللا شكل في السرديات الأدبية المعاصرة، وصولاً لتحقيق إنجاز نقدي على نظرية نقدية بعينها.
(5)
اللا شكل هو التسمية المناسبة التي خرج بها نقاد ماركيز في عجائبياته الروائية وتوسعاته الفنية، محللاً أجواء الديكتاتوريات، وانعكاساتها على البند الاجتماعي في تاريخيته وجغرافيته وطقوسه وخرافاته وأساطيره الكثيرة. ومثل هذا المفهوم بحد ذاته فضفاض وواسع، لا يقف عند أفق معين، عندما فتح أبواب السرديات الى فضاءات أكثر شموليَّة في التعاطي الفني المطلوب. من خلال الشكل.. اللا شكل. كطاقة خلّاقة لإيجاد فضاءات سرديّة إبداعيّة.