تسليع الجمال.. الذات الإنسانية والاستهلاك الرقمي

ثقافة 2025/02/19
...

كاظم لفتة جبر 


يُعد تقدم الفكر جزءا ضروريا من تطور الذات الإنسانية الكلية،  كما أن انعكاس الفكر بوجه عام على تفكير الأفراد وذواتهم في عصر ما، هو ضرورة  لتواصل الإنسان مع  متطلبات عصره .

فلكل عصر أفكاره ومشاعره، لكون الفكر هو الذي يحدد مشاعرنا اتجاه الأشخاص والموضوعات، على الرغم من أن البعض يرى أن تاريخ المشاعر مفارق لتاريخ الفكر، إلا أننا  نجد أنه لا يمكن فصل الذات عن الإدراك.

وكما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في القرن السابع عشر: « أنا أفكر ، إذن أنا موجود «،  إذ جعل من الشك الحقيقة اليقينية التي يمكن إثباتها، كذلك يمكن أن يكون الشعور جزءا من إثبات الذات، فأنا أشعر إذن ذاتي موجودة، فعدم الشعور موضوع لا إنساني، وكما أن الفكر منبه للعقل، كذلك الشعور منبه للذات والجسد في الراحة والألم .

تاريخ الفكر شيده الحكماء والعلماء، أما تاريخ الشعور فشيدته المواقف الإنسانية والجمالية،  فالأول مبني على الحاجات، أما الثاني فمبني على الرغبات، ففي كل عصر تنشغل الذات ببناء كينونتها وفق متغيرات ذلك العصر . 

فما يقدمه الفكر للإنسان من انتفاع يجعله يشعر بالسعادة، أو ما يقدمه الإبداع من شعور لمذاقات الذات سواء كان فرحاً أو حزناً،  يجعلنا نرى انعكاس الفكر على مشاعر الإنسان، فمشاعر الإنسان رهينة بما تفكر، فنوعية التفكير ترتبط بالمعرفة، أو الفكر الأيديولوجي أو  الدين الذي يتبعه الإنسان في حياته، ولا ننسى أثر  البيئة الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية في الأفراد، فكل تلك العوامل هي التي تؤثر في نوعية المحفزات التي يشعر بها الإنسان، أو التي يفرزها اتجاه الآخرين . 

فماهية الإنسان هي الذات، وذات الإنسان هي ماهيته، ونفي الذات نفي للوجود الإنساني ومشاعره، فتاريخ الفكر الإنساني هو بحث عن المتعة والسعادة والجمال، لكون الجمال إحدى القيم العليا التي تسري في كل وجود وموجود، فالحق واحد والخير واحد، إلا الجمال فهو متداخل بينهما، فمن الممكن أن يكون الجمال شعورا بالحق وبالخير وما يقابلهما من متضادات، لأنه نابع من الذات، بعكس القيم الأخرى، فهي موضوعات خارجية تؤثر في وجودنا، أما الجمال فيؤثر في ذواتنا ومشاعرنا وانفعالاتنا وسلوكياتنا. 

وتختلف مشاعر الذات الجمالية من فرد إلى آخر، أو من مجتمع إلى آخر، وحتى من عصر إلى عصر آخر، ففي المجتمعات البدائية كانت الذات الجمالية وظيفية، أما المجتمعات الحضارية فهي معيارية، أما في المجتمعات الصناعية فكانت انتفاعية، أما الذات الجمالية في عصرنا الرقمي فهي صورية إعلانية، حيث لا انسجام بين عالمها الواقعي وعالمها الافتراضي، فالفلتر والقوالب الجاهزة للترويج لصورة الجسد لا تمثل صورتنا الحقيقة، بقدر ما تمثل الصورة التي تسعى لها المجتمعات التجارية لعرض بضاعتها، فتسليع الذات واستغلال الجمال صفة عصرنا التي لا يمكن الانفكاك عنها .

وهذا ما أكد عليه ديفيد هيوم في كتابة:  تحقيق في الذهن البشري، بأن «الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء، بل في العقل الذي يتأملها “، فالشيء لا يكون جميلاً في حد ذاته، بل يكون جميلا بناء على المشاعر التي يربطها الناس به .

فالذوق الجمالي عند الناس نسبي، لكن الغرائز والرغبات الجمالية مشتركة بينهم، سواء كانت عقدا نفسية أو مواقف أو غرائز فطرية، فالإنسان كائن انطباعي، فاستغلت ذلك الأنظمة الرأسمالية العالمية، لتكون الانطباعات الاستهلاكية محل الأذواق الجمالية الحقيقية، مما أدى إلى تغييب المعايير الجمالية الأصيلة، واستبدالها بمعايير تسويقية خاضعة للعرض والطلب. 

إذا كان الجمال يتحدد وفق معايير، فإنه يجب أن يكون ممتعًا، حاجة روحية، جذابا، ومتناغما في الشكل والمضمون، وعليه، يجب التمييز بين نوعين من الذوق الجمالي: الذوق الاصطناعي، والذوق الفطري والمكتسب، فالأول هو الذوق الذي يفرض على عامة الناس عبر مواقع التواصل، وهو ذوق ترويجي تسويقي يخاطب الجمهور الافتراضي، أما الثاني فيدركه المفكرون والأكاديميون والفنانون، باعتباره  نابعاً من تجربة إنسانية 

عميقة .  

لقد أصبح الجمال في عصرنا الراهن خاضعا لمنظومة استهلاكية تكرس 

التسليع على حساب القيمة الجمالية الحقيقية، وإذا كان الفكر هو الذي يُحدد مشاعر الإنسان، فإن تحرير الجمال من سلطة الرأسمالية يتطلب وعياً فكرياً قادراً على استعادة البُعد الإنساني للجمال، بوصفه تجربة ذاتية حقيقية، لا مجرد منتج بصري خاضع لمعايير التسويق

 والاستهلاك .