المثقف العربي ومتلازمة ستوكهولم

ثقافة 2025/02/19
...

د.ثائر العذاري


على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب لهذا العام 2025، أجرت صحيفة مصرية حواراً مع أديب عراقي صديق بيني وبينه مودَّة كبيرة على الرغم مما بيننا من خلافات في قناعتنا الفكرية، وجاء في الحوار تأكيده على أن التاريخ  كتِب بالدم وأنْ ليس أمامنا سوى قطع علاقتنا به.

ولأني وجدت هذه الجملة استفزازية في الوقت الذي تكشر فيه القوى الإمبريالية عن أنيابها وما عادت تغلِّف أطماعها بالعبارات الدبلوماسية، بل تعاملنا كما لو كنا عبيداً في زمن الرقِّ، حاولت مناقشة صديقي في رأيه، لكنه أقفل الباب بقوله إن هذا رأيه وهو غير متأثر بأحد وليس على استعداد لتغييره.

أصبحت مقوله كتابة تاريخنا بالدم كثيرة التردد على ألسنة المثقفين العرب الذين ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية، لكنهم يتجاهلون عن قصد أو غير قصد حقائق جليَّة تضرب مبدأهم هذا في الصميم ليتهافت تهافت الرماد.


التاريخ العربي بين الإنجازات والصراعات

صحيح أن التاريخ العربي شهد حروباً وصراعات داخلية وخارجية، بدءاً من الفتوحات الإسلامية مروراً بالخلافات بين الدول الإسلامية، ووصولاً إلى الصراعات الحديثة في القرن العشرين والحادي والعشرين.

 ولكن هذا التاريخ لم يكن تاريخ حروب فقط، بل كان أيضاً تاريخ إنجازات حضارية كبيرة في مجالات العلم والأدب والفلسفة والفنون. 

فالعرب قدموا للعالم إسهامات لا تُنسى في الطب والرياضيات والفلك، وكانت مدن مثل بغداد وقرطبة والقاهرة مراكز إشعاع ثقافي وعلمي أنار للعالم كله دروب المعرفة. 

ولكن هل التاريخ العربي وحده الذي يمكن أن يقال عنه إنه كتب بالدم؟


التاريخ الأوروبي.. من الحروب الصليبيَّة إلى الحربين العالميَّتين

إذا نظرنا إلى التاريخ الأوروبي، نجد أنه مليء بالصراعات الدموية التي طالت ملايين البشر. 

فالحروب الصليبية، التي استمرت لقرون، كانت سلسلة من الصراعات الدينية والسياسية التي أزهقت أرواحاً  يصعب حصر أعدادها لضخامتها وامتداد رقعة تلك الحروب. 

كما شهدت أوروبا حروباً طاحنة بين الممالك والإمبراطوريات، مثل حرب المئة عام بين إنجلترا وفرنسا (1337 – 1453) وحرب الثلاثين عاماً (1618 -1648) في أوروبا الوسطى، التي كانت من أكثر الحروب تدميراً في تاريخ البشرية.

ثم أليس من أشعل الحربين العالميتين في القرن العشرين قد كتب تاريخه بالدم! حيث كانت أوروبا مسرحاً لأعنف الصراعات في التاريخ البشري. 

الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية أودتا بحياة عشرات الملايين من البشر، ودمرتا مدناً بأكملها، وأعادتا تشكيل خريطة العالم السياسية، ولعل الحرب الثانية وحدها التي أودت بحياة ستين مليون إنسان وكشفت عن أبشع قدرة على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية (هيروشيما وناگازاكي).


التاريخ الأميركي.. من الإبادة الجماعيَّة إلى الحروب الحديثة

أما التاريخ الأميركي، فهو مليء بالصفحات الدموية. 

فمنذ وصول المستعمرين الأوروبيين إلى القارة الأميركية، شهدت المنطقة عمليات إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً ضد السكان الأصليين، الذين تعرضوا للقتل والتشريد وفقدان أراضيهم.

كما شهدت الولايات المتحدة حرباً أهلية دامية في القرن التاسع عشر، أزهقت أرواح مئات الآلاف. وفي العصر الحديث، كانت الولايات المتحدة طرفاً في العديد من الحروب والصراعات الدولية، مثل حرب فيتنام وحرب العراق وأفغانستان، وجميعها خلفت مآسي إنسانية كبيرة.

لقد وصلنا مرحلة خطيرة من الاستهتار بهويتنا وثقافتنا وتراثنا وقبل كل ذلك لغتنا، حتى أصبح حشو الكلام بالمفردات الأجنبية دليل الرقي وسعة المعرفة، وصار من الطبيعي أن يبدأ المثقف العربي حديثه بعبارة قال فلان (الأميركي أو الفرنسي) كذا كأن قول فلان هذا نصٌّ مقدّسٌ تُبنى عليه الأحكام والنتائج، وأصبح طبيعياً أن نسمع مصطلحات مثل ميتا سرد وميتا شعر وميتا رواية، كأن لغتنا عاجزة عن القول ما وراء السرد وما وراء كل ذلك، وصار مستساغاً أن يتحدث آخر عن ما بعد الكولنيالية (لا أدري لماذا لم يقولوا ميتا كولنيالية) كأننا تخلصنا من الاستعمار وأحرزنا استقلالنا التام، وصار طبيعياً أن يترفَّع الناقد عن استعمال مصطلح (الراوي) العربي الصميم والمحدد، ويقول بدلاً منه (السارد) تقليداً للإنجليزي ونحن لا نعلم أكان يقصد الراوي أم المؤلف.

لم أجد تفسيراً لكل هذه الظواهر إلا احتقارنا لهويتنا وانبهارنا بقوة العالم الإمبريالي التي لم تقم إلا على نهب مقدراتنا واستلاب حريتنا، ويبدو أن المثقف العربي (المتنوِّر) مصابٌ بتلك العقدة النفسية المعروفة بـ(متلازمة ستوكهولم) التي «يطور فيها الرهائن أو الضحايا مشاعر إيجابية تجاه خاطفيهم أو المعتدين عليهم، مثل التعاطف أو الولاء، نتيجة للتوتر الشديد والاعتماد العاطفي خلال فترة الأسر أو الاعتداء».