مسؤوليَّة الرأسماليَّة عن كراهية الديمقراطيَّة

آراء 2025/02/19
...

  أ.د. عامر حسن فياض


علق (الكسيس دي توكفيل) في كتابه عن الديمقراطية في امريكا على الامتثال الجامع وهندسة أذعان العقول، الذي وجده في الولايات المتحدة الأمريكية بقوله ( لا أعلم بوجود بلد آخر يضاهي أمريكا في ضعف حضور الاستقلالية الحقيقية للفكر وحرية النقاش). 

إن هذه البلاد لا تطمح إلى الديمقراطية بالمعنى التام للكلمة، وإنما إلى الديمقراطية الرأسمالية التي هي أمر مختلف نوعا ما على حد تعبير الكاتب الامريكي (نعوم تشومسكي) الذي يضيف القول بأن أهم أعداء الحرية من منظور تحرري القرن الثامن عشر الاوروبي هم النظام الإقطاعي والعبودي ومعهما مؤسستان قويتان هما الكنيسة والدولة. وبمجرد إزالة اعداء الحرية كان البديل هو تمركز السلطة الفعلية في أيدي النظامين الصناعي والمالي لرأسمالية الشركات القائمين على الديمقراطية الرأسمالية. في الديمقراطية الرأسمالية يجب أن يكون الشغل الشاغل للجميع هو ضمان رضا الأثرياء وكل ماعدا ذلك ثانوي، إذ ما لم تلبِ رغبات المستثمرين، لن يتحقق إنتاج أو عمل ولن تتاح مصادر للرفاه الاجتماعي. وبمقدار ما تتم تلبية مطالب الأثرياء يصير بوسع الناس عموما أن يأملوا بحياة كريمة في إطار دورهم، بوصفهم خدماً للسلطة يؤجرون أنفسهم لأولئك الذين يملكون الاقتصاد الخاص ويديرونه.  كذلك تتسم الديمقراطية الرأسمالية وفق نموذج الولايات المتحدة الامريكية بعدم المساواة في توزيع الموارد، وتنعكس عدم المساواة على شكل تفاوت كبير في القدرة على المشاركة بطريقة بناءة في القرارات ضمن النظام السياسي، يضاف إلى ذلك يجب تكريس النظام السياسي لضمان تلبية مطالب الأثرياء، حاله في ذلك كحال جميع أوجه الديمقراطية الرأسمالية الأخرى.  إن من يشغل مواقع صنع القرار الرئيسة في السلطة التنفيذية للأنظمة الرأسمالية هم ممثلو الشركات الكبرى والمصارف وشركات الاستثمار مع عدد قليل من مكاتب المحاماة العاملة أساساً في خدمة مصالح الشركات، التي تمثل بالتالي المصالح الواسعة للملاك والمديرين، وكذلك مصالح عقول منتقاة من الذين اصبحوا (خبراء). وفي المقابل تكون السلطة التشريعية مستمدة بأغلبيتها الساحقة من فئات رجال الاعمال والمهنين، وإذا ما غادر أحد اعضاء مجلس النواب أو الشيوخ الكونغرس، فانه لن يخرج منه ليعود فيحتل موضعا صناعيا أو فلاحا أو سائق شاحنة أو كاتبا أو ما شابه، إنما يخرج عادة إلى شركة أو مكتب محاماة.  والذي بات مفهوما أن الديمقراطية الرأسمالية هي في أحسن الأحوال شكل من الديمقراطية محدود جداً وقد رأى (جون جاي) وهو أول كبير قضاة المحكمة العليا الأمريكية (إن الناس الذين يملكون البلاد يجب أن يحكموها)، لان النظام السياسي ومعه النظام الاجتماعي الامريكي صمم لخدمة احتياجات الطبقات المالكة. إن الديمقراطية الرأسمالية جعلت الولايات المتحدة الامريكية إلى حد كبير دولة الحزب الواحد ويدرك قسم كبير من الجمهور الامريكي تهميشه وانعدام صلة النظام السياسي بانشغالاته، لا بل إن نحو نصف الناخبين لا يكلفون أنفسهم حتى عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية، وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأمريكية أن نصف الجمهور يعتقد ان الحكومة الامريكية تدار بأيدي مجموعة صغيرة من اصحاب المصالح الكبرى الباحثين عن مصالحهم الخاصة، أما التصورات الدقيقة إلى حد كبير التي يتبناها النصف الآخر العازف عن المشاركة فإنها تتعرض للانتقاد بوصفها متطرفة أو ماركسية ! وعليه لاتُعد تفاهة الخطاب الديمقراطي الرأسمالي وما فيه من سطحية وسخافة مطلقة مفاجئة بتاتا في الكثير من الاحيان على حد قول (نعوم تشومسكي)، فالحكومات الامريكية حتى اليوم في خطواتها تهدف إلى تقويض تدابير دولة الرفاه الاجتماعي وتوسيع النظام العسكري وسياسات خارجية تقوم على التدخل الاجتماعي وتوسيع النظام العسكري وسياسات خارجية تقوم على التدخل المتجدد والتخريب والارهاب الدولي الصريح في الخارج كذلك بهدف تغطية تأثيرات الديمقراطية الرأسمالية السلبية، وإعادة الجمهور إلى حالة اللامبالاة والطاعة فيما يبقى النظام السياسي الامريكي لعبة في أوساط النخب صاحبة الامتياز وحدها.  إن التاريخ المكتوب بشكله الرسمي في الولايات المتحدة وحتى يومنا هذا لا يتضمن اي حادثة تسمى الهجوم الامريكي على فيتنام، وينطبق الامر ذاته على حالات اخرى كالاحتلالات والحصارات والإبادات وسياسات تجويع الشعوب ونهب ثرواتها. وان تم الحديث أو الكتابة عنها تكون النتائج واحدة دائماً هي طمس للحقائق أو تبرير لها حين يتعلق الامر بجرائم الولايات المتحدة وعملائها. ويسهل تحديد اسباب اذعان وامتثال من لا يدوّن الحقائق أو يطمسها ويحرفها إلى مكاسب الامتثال الهائلة في مجتمعات السلطات الغنية، ودون هذا الاذعان الذي تحسن هندسته وصناعته الديمقراطية الرأسمالية ليس امام مدوّن الحقائق سوى الاستبعاد ومصاحبة الفقر.