سرى آل جواد*
تُعدّ ظاهرة التسول من القضايا الاجتماعية التي تفاقمت في شوارع بغداد، حتى باتت مشهداً مألوفاً عند التقاطعات، وفي الأسواق، وأمام المساجد. هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها ازدادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، متأثرة بعوامل اقتصادية واجتماعية وأمنية. وعلى الرغم من وجود محتاجين حقيقيين، إلا أن التسول تحول في كثير من الحالات إلى مهنة تُمارس بطرق احتيالية، ليس من العراقيين فقط، بل تعدّاهم ليشمل جنسيات عربية وحتى آسيوية، ما يثير تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة وكيفية الحد منها.
فقد تجاوز الأمر الأماكن العامة إلى طرق أبواب البيوت في أوقات مختلفة، حتى في أوقات الراحة الخاصة بالأسرة.
وتنطوي هذه الظاهرة على عدد من الأسباب التي كانت عاملا رئيساً في تفاقمها وسرعة انتشارها. وأصبحت هنالك شبكات تديرها وتنظم عملية توزيعها في الأماكن العامة، حتى أصبح لكل مجموعة مكانها الخاص الذي لا يجوز فيه لمجموعة أخرى مزاحمتها فيه، ويمكننا تأشير عدد من الأسباب التي كانت وراء استفحال هذه الظاهرة الغريبة. والتي يمكن يمثل الفقر والبطالة واحداً من أبرز العوامل التي تدفع الأفراد إلى التسول، حيث يواجه الكثيرون صعوبة في تأمين احتياجاتهم الأساسية بسبب البطالة أو الأجور المتدنية، فضلاً عن النزاعات والخروب التي شهدها العراق خلال سنوات طويلة. تلك التي خلّفت آلاف الأرامل والأيتام، إضافة إلى تدمير البنية التحتية وتراجع الخدمات، ما دفع الكثيرين إلى اللجوء إلى التسول كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.
وكان لتفكك الروابط الأسرية وغياب الدعم الاجتماعي أثران كبيران في تزايد أعداد المشردين والمحتاجين، خاصة بين الأطفال الذين يُجبرون على العمل أو التسول لإعالة أنفسهم.
ويجب التنويه هنا إلى كارثية استغلال المافيات والشبكات المنظمة في الترويج للكثير من مظاهر التسول في بغداد، فالتسول لم يكن مقتصراً على المحتاجين فحسب، بل أصبح تجارة مربحة لبعض العصابات التي تستغل الأطفال والنساء وكبار السن، وتجبرهم على التسول مقابل مبالغ محددة، فيما يُعرف بـ"تجارة التسول".
إن ضعف تطبيق القوانين وغياب الرقابة الصارمة وعدم تفعيل البرامج الرادعة ساهم في استمرار الظاهرة وانتشارها في مختلف مناطق بغداد.
ويسلك المتسولون في بغداد عدداً من الأساليب لاستدرار العطف، من قبيل ادعاء المرض أو الإعاقة؛ إذ يحمل بعضهم تقارير طبية مزيفة لإقناع الناس بمساعدتهم.
وبعضهم يقوم باستغلال الأطفال ويُجبرهم على التسول في الشوارع والأسواق، مما يعرضهم لمخاطر عديدة، من بينها الاستغلال الجنسي واحتمالية استخدامهم مستقبلاً من عصابات الجريمة المنظمة.
ومنه من يلجأ لبيع السلع الرمزية من قبيل بيع العلكة أو المناديل كوسيلة لكسب المال، لكن هدفهم الأساس ليس إلا. وكل هذه الطرق يسلكها المتسولون من أجل استعطاف المشاعر: من خلال البكاء، وادعاء الضياع، أو استخدام كلمات مؤثرة.
ويمكن تأشير عدد من الآثار السلبية لظاهرة التسول، منها على سبيل التمثيل لا الحصر. التأثير المتعلق بالمظهر الحضاري للمدينة، إذ إن انتشار مظاهر الفوضى في الشوارع بسبب تزايد أعداد المتسولين، يؤثر على جمالية العاصمة.
فضلا عن زيادة معدلات الجريمة إذ إن بعض المتسولين متورطون في أعمال سرقة أو تهريب، أو يتم استغلالهم من قبل عصابات الجريمة المنظمة. وكل هذه الأمور تؤدي إلى استغلال الأطفال وحرمانهم من التعليم: فالتسول يحرم الأطفال من فرص التعلم والنمو السليم، مما يهدد مستقبلهم. زد على ذلك أنه يسهم في خلق ثقافة التواكل، فبدلاً من البحث عن فرص عمل، يصبح التسول أسلوب حياة يعتمد فيه الفرد على عطف الآخرين.
وبعد كل ما تقدّم يمكننا تقديم عدد من الحلول الممكنة لمكافحة التسول، التي منها تعزيز دور الحكومة في دعم الفقراء من خلال تحسين شبكات الرعاية الاجتماعية، وتوفير فرص عمل للعاطلين. فضلا عن مكافحة العصابات المنظمة التي تستغل المتسولين من خلال فرض عقوبات صارمة ومتابعة الجهات الأمنية لهذه الأنشطة، وتوفير مراكز إيواء وتأهيل للمتسولين، خاصة للأطفال والنساء، لتعليمهم مهارات تمكنهم من كسب رزقهم بطرق كريمة.
والقيام بتوعية المجتمع بعدم تشجيع التسول العشوائي، والتبرع للجمعيات الخيرية الموثوقة بدلاً من إعطاء المال مباشرة في الشوارع.
ويمكن لتفعيل القوانين التي تجرم التسول، مع التركيز على معالجة الأسباب الجذرية بدلاً من الاكتفاء بالملاحقة الأمنية أن يكون له كبير الأثر في الحدّ من هذه المشكلة الخطيرة.
إن ظاهرة التسول في بغداد تعكس مشكلات اقتصادية واجتماعية معقدة لا يمكن حلها بقرارات سطحية، بل تحتاج إلى استراتيجية متكاملة تشمل الإصلاح الاقتصادي، ودعم الفئات الهشة، وتطبيق القوانين بصرامة. إذ إن القضاء على التسول لا يكون فقط بمنع المتسولين من الشوارع، بل بإيجاد حلول حقيقية تمكنهم من العيش بكرامة بعيداً عن الحاجة والاستغلال.
*باحثة أكاديمية