{صيف أسمر} مثالاً لموت المعنى

ثقافة 2025/02/19
...

  د. صباح التميمي 

 ثمة محاولات عصيَّة على الاحصاء شهدتها الشعرية العربيّة في أدوار تشكلها، تحرّكها نيّات فنيّة تهدف لكسر قاعدة العقل العمودي المشهورة المختصرة في عبارة "شرف المعنى وصحته"، ولعل صرخات أبي تمام الشعرية، وردوده على مؤاخذات العقل العمودي الباحث عن "جرعة من ماء الملام" أشهر من أن نعيد الكلام فيها الآن، ما جعله يشكل في الثقافة التراثيّة إمام أهل الصناعة الشعرية كما يقول القاضي الجرجاني.

 حدث هذا يوم كان الرهان مبنيّاً على مخالفة السائد، وكانت الثقافة العربيَّة ثقافة معنى، أما اليوم، وبعد أن مرّت القصيدة العربيّة بتمرحلات فنيّة تجاوزت معها الجاهز والمطروح في الطريق، وباتت الآلة تقاسمنا صناعة الكلام، في هذا الأفق المعتم، البحث عن الجاهز سيكون محض توهمات يعود فيها العقل المعاصر إلى طفولة الفهم!  


القصيدة اليوم لا ينبغي لها أن تقول معنىً، ولا يُمكن أن تُطالَب بذلك، بعد أن مررنا بميتات متعددة، مات فيها الشاعر، ثم ماتت القصيدة، ومات معها المعنى.. في هذا الفضاء ما عاد المعنى يُشكّل رهاناً، لم تعد القصيدة تُقدّم خدمات خمس نجوم للمتلقي، بل صارت تعمل على توريطه في لعبة تأويلات مفتوحة، تتقاطع فيما بينها مشكّلة دائرة شبه مغلقة، تدور فيها وجهات النظر المتباينة. 

 هذه الظاهرة نُمسك بها في قصيدة النثر الناضجة، لذا أجدني أنحاز للقول الذي يذهب إلى جعل قصيدة النثر مشروع شخصي مفتوح، فهي ليست بنية جاهزة تخضع لمقاييس عقل التلقّي الجمعي، بل هي صوت منفرد، ابتداءً من ثورتها على الثابت الشكلي، وكسر تابواته، حتى صارت - في الناضج منها - تخلق شكلها الذي تريده كالنهر الذي يخلق مجراه كما يقول أدونيس، ووصولاً إلى قتل المعنى الجاهز فيها. 

 وهنا تستبعدُ شخصنةُ القصيدةِ، وتذويتُها -جعلها ذاتية - فكرةَ البحث عن المعنى الجاهز، ولكن هذا لا يعني أنها تعمل على صناعة العبث وتسويقه فنيّاً، كما يذهب السطحيون من القرّاء، بل هي تقترح بدائل مفتوحة، يكون فيها المتلقي أمام رهان التأويل، وبهذه الاستراتيجية تنتعش اللغة، وتُجدِّد نفسها، ما يجبر المتلقّي على تغيير عادته في القراءة، ويدفعه إلى طرد الكسل القرّائي، وهجر عادة الركون إلى القراءات الجاهزة التي يُمليها عليه العقل الجمعي. 

 إنّنا في تجربة "صيف أسمر" لعمار المسعودي، أمام غيابات متعددة للمعنى الجاهز، ففي قصائده تجارب شخصية تخوضها الذات وهي تقرأ الوجود والأشياء المحيطة بها قراءة خاصة، فأنت لا تعرف أطراف اللعبة الشعرية، ولا يمكن لكَ أن تُسقط الضمائر الحاضرة في القصيدة على شخصية قد تعرفها أو تكون قريبة من الذات الشاعرة في سطح الواقع.  

فتحُ الأفقِ التأويلي بهذا الشكل ينجح في الاقتراب بقصيدة النثر المحلية من العالمية، ويُخلّصها من أحمال تركة المعنى الجاهز التي تنوء بها، في قصائد "صيف أسمر" تنشرح أساريرك وأنت تقترب من مسك اِلتماعات سريعة تمنحك إيّاها اللغة، لكنك سرعان ما تُدرك أنّك في ورطة، حين تذهب بك إلى إنتاج تأويلات قد تكون مفرطة، هذا التأرجح بين الإفراط والاعتدال في التأويل هو ما يمنح هذا النمط من القصائد قيمتها، فقصيدة النثر لا تقول كما تقول العجائز حكمتها، هي فتاة متمنّعة، لغتها التلميح والإشارة، ولا وجود للتصريح في قاموسها الشعري. 

ربما نذهب إلى القول ونحن نحاول أن نقرأ عنوان المجموعة "صيف أسمر"، بأن الصيف هو تجربة الذات الشاعرة العامة، فالصيف بحثٌ عن الظل والماء والبرودة والانتعاش والتخلّص من القيظ... والسمرة صفة تمثّل واحدة من لوازم الشاعر الجسديَّة، فهل يعني ذلك أنّ الصيف – هنا – معادل موضوعي للذات، وهي تعيش اغترابها القائظ بحثاً عن ماء الوجود وظله، ربما يكون هذا هكذا، وربما لا، فقد يكون تأويلنا هذا إفراطاً في البحث عن المعنى الذي يُرضي ذائقتنا، ويُسكِت فضولنا، ولو سألنا الشاعر عن صحّة تأويلنا، فقد يبتسم في إشارة تُخفي تحتها عبارة: عليّ أن أقول وعليكم أن تتأوّلوا. 

في نهاية المجموعة ثمة قصيدة – أخذت المجموعة اسمها منها - تُلوّح لنا بصحّة هذه التأويلات، أو هكذا تُوهمنا، فنحن أمام شعريَّة مُوارِبة تنهض على تقنيات فنيّة مخاتِلَة: "وأتدانى إلى بياضِه المحجوب حدّ اجتيازه للسمرة التي لا يفاضلها بلون/ أعدو في مسافته التي طالما كان يملؤها بالحصون وأيأس لولا فتحه لنافذة/ يتمناني وأتمناه لولا مفازات هذه اللغة الخائنة؛ ما ذهب بي إلى المعاول/ لتحطيم سياج في ابتسامة لرضاه./ يدعوني بخفاء كأنني في النسيان، بينما أدعوه نهارا وكأنني في الذكرى/ يؤجل احتمالي للشتاء وهذا ما يجعلني مطراً أو برداً لا أطيقهما معاً./ أواليه ما يجعلني أخشع خلفه في صلاة أو تهجّد أو دعاء؛ ولا/ يتلفّت في موسم قطفٍ لي حتى ظننتُ بنسيانه لي، وحينما يصافيني بحلم/ أجده ذاكرا لي نهاري وليلي، نومي ويقظتي، سعادتي وحزني، بُعدي عنه/ وقربي، تذمّري منه ورضاي، حتى ما عدتُ أميّز ما بين غيابه وحضوره،/ بين دعائه لي ودعائه عليّ.. هو شديد البياض بينما أنا صيفٌ أسمر".

فنيّاً تتشكّل القصيدة من تقنيات: (مجازات – ثنائيات ضديّة "ضمائر + تطابقات" – ايقاعات فكرة) لا تؤدّي بنا إلى المعنى، بل تُوهمنا بفهمه المباشر، لكنها – بوجوهها الأخرى – تبتسم في سرِّها من فهمنا المتعجّل.. هذه التقنيات تُمثّل "مُهيمنات" تهيمن على تجربة المسعودي في "فقه النشوة، وصيف أسمر" بشكل واضح، فتمنح قصيدة النثر عنده هُويّتها الخاصة التي لا تنازعها عليها تجربة مجايلة لها عند الآخر؛ لأنّها وسمٌ أسمر وَسَمَ به المسعودي قصائده، فباتت تلمعُ بين قطعان قصائد النثر المتناثرة في الأرجاء إذا ما حاول الآخر خلطها بقصائده وهو يرعى بحثاً عن كلأ الشعريَّة ومائها.     

إنَّ ثمرة هذا اللون من الشعر تكمن في أنه لا يقول الجاهز، هو يقترح القابل للتأويل والمحتمل، يؤجّل المعنى ويدّخره في جرار التأويل، المسافة الفاصلة بين هذا الشعر والمتلقي تكمن في استعداد المتلقي لمحاورته والدخول معه في عملية خلق لتأويلات جديدة، هو لا يعطي إلا رؤوس لاحتمالات معنى.. ولا يضع نقطة في نهايات السطور.