فلسفة الترجمة

ثقافة 2025/02/20
...

  ترجمة: جودت جالي

يبدأ كتاب "فلسفة الترجمة" بحكاية يحكيها لنا مؤلفه داميون سيرلس الذي ذهب في شبابه، وهو يحاول في الترجمة، الى المترجمة إيديث غروسمان وسألها أن تلقي نظرة على ترجمة له، فإذا بالمترجمة الخبيرة، وهي لا تعرف لغة النص الأصلي للترجمة، تحدد بالضبط أخطاء الترجمة بقراءة نص الترجمة فقط، وكلما روى سيرلس هذه القصة لاحظ أن "المترجمين الآخرين لا يتأثرون بها كما يتأثر غير المترجمين"، وباعتباري أنتمي الى الفئة الأولى سألت لورنا سكوت فوكس مؤخراً أن تقوم بتحرير كتاب قمت بترجمته من لغة لا تعرفها، فلم أفاجأ بأن اقتراحاتها كانت في محلها. إننا في العالم المثالي نود أن يحرر ما نترجمه متعددو لغات غير أن عالم الطباعة لا يعمل بالمثاليات.

لقد اهتم سيرلس، الذي درس الفلسفة في الجامعة وكوّن له اسما كمترجم من الالمانية والنرويجية والفرنسية والهولندية، بأن يقيم حواراً بين موضوعيه، الفلسفة والترجمة، وهو يرى ﺑــ "أننا نريد السير على الخط... بين الاعتقاد النرجسي القائل بأن لا أحد لديه شيء يقوله لنا والاعتقاد النرجسي بالمثل بأنّه ليس من مشكلة أبداً في أن نعيد صياغة ما يقوله الآخرون بصوتنا".

يُجْمِل، وهو يقتحم التاريخ، البحث المؤثر لأنطوان بيرمان "التقليد والترجمة والنقل" 1988 بأن الرومان رأوا ممارسة الترجمة بوصفها "نقل تفويض"، وأصبحت في القرن الرابع عشر "فهماً جديداً لنقل المعرفة" ، وفي عصر النهضة "أصبحت الترجمة مهمة حفظ روح أو جوهر الأصل في جسد جديد كلياً"، وبتقدمنا الى مرحلة الرومانسية الألمانية التي حولت فكرة الترجمة لتكون أقرب الى شكلها المعاصر، يقتبس سيرلس من فريدريك شايرماخر قوله في العام 1813: "إما أن المترجم يترك المؤلف بسلام.. فيتحرك القارئ نحوه، أو يترك القارئ بسلام.. فيتحرك المؤلف نحوه". هذا الاقتباس الشهير الذي يشير الى التغريب والتوطين يخضع حتى الآن للنقاش عند منظري الترجمة، وأحيانا، الممارسين لها.

إنَّ التغريب والتوطين، طبعاً، مفهومان متقاربان. أنا دائماً أفكر بأنَّ الأول يعني حفظ المجلوبيَّة فيما يدل الثاني ضمناً على التكيّف الثقافي. على كلِّ حال، أليس المترجمون قادرين على إنجازهما معا، كما تكون الحاجة ومتى تكون، في الجملة نفسها؟، يظهر مثال مستعار من بيرمان بأن هذا ممكن حقاً، فقد نجح الشاعر الالماني فريدرك هولدرلين في ترجماته لسوفوكلس في تحقيق "حركة مزدوجة". 

إنَّ سيرلس باقتباسه من كتاب فينوتي (لا منظورية المترجم)، الذي يؤكد بأنّه يجب دائماً الاختيار بين النزعة العرقية والتعددية الثقافية، يقترب من تناقضات الكتاب، فوفقاً لفينوتي فإنّ "المترجم كلي القدرة بشكل غريب... فيما الأصل عاجز". لا يتفق سيرلس مع فكرة " الأجنبي= جيد، والوطني= سيء"، ولا يؤمن بالنقيض. إنّه يلاحظ ملاحظة صائبة وهو يناقش ما هو الجيد والسيء في الترجمة بأن هذا الأمر لا معنى له لأنّه يتقرّر حسب كل حالة.

إنَّ مفهوم فيكتور شكلوفسكي عن التقديم بشكل غير مألوف قد جرى العمل به لمعارضة تفرع (غريب/ مألوف) من خلال الادعاء بأن "الشيء إذا كان مألوفاً جداً لا يمكننا ادراكه إطلاقاً". إنّ "معايير الأدب" عند شكلوفسكي، و" أنواع الكلام" عند ميخائيل باختين، و"ألعاب اللغة" عند لودفيغ فيتكنشتاين تفيدنا كلها لتوضيح العملية التي يركز المترجم وفقاً لها على "انحرافات الأصل عن المألوف، وكذلك على الأصالة، والكنوز"، فيما يترك عناصره العامة على حالها.

يجري استكشاف حكمة (الترجمة نوع من أنواع القراءة) في الفصل المركز على كتاب موريس ميرلوبونتي (فينومينولوجيا "علم ظاهرات" الإدراك) 1945، خصوصاً تحليله لطرق "رؤية" الأشياء في أذهاننا. إذا كانت القراءة إدراكاً فكذلك هي الترجمة، وأكثر من هذا، لا فائدة هنا من التأمل فيما إذا كان المترجم "حر" تماماً ما دمنا "واقعاً مقادين بالأصل"، لا يمكننا "اختيار" ما الذي يمكننا أن نراه في النص أكثر مما يمكن لسيرلس في رؤيته لغروب الشمس إذا ما قال "ما إن خرجت وفتحت عيني".

إنَّ ملاحظات المؤلف ليست دائماً متماثلة، فقوله بأنَّ "نص الحرب والسلام مترجماً هو رواية متأثرة تأثراً مفرطاً بالنص الروسي الأصلي لرواية ليو تولستوي" اختيار جيد بخصوص طبيعة الترجمة، وأقل من هذه الملاحظة تأثيراً أقوال مثل "الترجمة مثل الأصل وليست مثله في آنٍ معاً.. إنّها درب المترجم عبر النص الأصلي"، فهذه الاقوال المقصود منها التأثير في القارئ ليست ذات اسهام كبير في الموضوع. حقاً أن الكتاب ليس دليلاً في الترجمة إلا أنه لا حاجة للجوء الى الإثارة في مسائل يسودها الغموض، وهو أكثر اقناعاً عندما يقول: "إنّ الانزعاج من الادعاء بأن الترجمة مستحيلة يستند في الواقع الى الحقيقة الجلية بأن الترجمة ممكنة وتحدث دائماً".


يركز الجزء الثاني على الأمثلة

إنَّ مثالي المفضّل الذي يضربه سيرلس هو ترجمته لاحتفاء أوي جونسن بكتاب إنغبورغ باخمان "رحلة الى كلاغينفورت" يُظهر أنه حتى أسماء الأعلام يجب أن يُعتنى بها عند الترجمة، وهذا أقنعني بأن سيرلس مترجماً أحسن منه كاتباً. إنّه يوبّخ ديفيد بيلوس لإصراره على أن المترجمين يجب أن تتوفر لديهم معرفة كافية باللغة التي يترجمون منها، ولكي يوصل الرسالة الى غايتها يذكر القضية المثيرة للاهتمام لمصدر لم يذكر عنوانه كانت كاتبته بحاجة لترجمة فقرة من رولان بارت ولم تكن معرفتها بالفرنسية جيدة ومع ذلك أنجزت الترجمة. إنّ "فلسفة الترجمة" يركز على الترجمة الادبية بينما يتناول جوانبا من مسائل أخرى بين الحين والآخر بما فيها ترجمة المصطلحات العلمية واللاتينية و"تعاملنا مع الشعوب الأخرى" ضمن القضايا العالمية. 

يعلمنا سيرلس بأنّ جوهر الترجمة ليس المفردات المعجميَّة بل "الصوت، والتسجيل، وتداعي المعاني، والحركة" وكذلك "القوة". لعل القارئ باهتمامه المفترض بالخيال الأدبي والشعر ليس بحاجة لأن يُذكّر بأن "مهمة المترجم ليست ايجاد الكلمة المطابقة معجمياً لكلمة أجنبية محددة" غير أنّه ذكر هذه النقطة أكثر من مرة. عندما يحاول الناس تعريف الترجمة فإنّ المجازات تكون حاضرة في الذهن، ويذكر لنا سيرلس تشبيه نص أصلي ونسخة عنه بلغة أجنبية بوصفهما "قريتين أو جزيرتين منعزلتين" وللابتعاد عن هذه التصوير يقدم الترجمة بوصفها "شيئاً يتحرك عبر العالم"، وتأخذنا أمثلة أخرى الى مقارنات بين الفلسفة والشعر، وأقواس السهام وأقواس البناء، والألعاب النارية ومجاميع النجوم، وهذا يذكرنا بما قاله إليوت واينبيرغر في "مصادر مجهولة: حديث عن المترجمين والترجمة" 2000 : "الترجمة نوع فريد كلياً، ولكن لسبب ما يوجد ميل دائم لشرحها ﺑــ "قياس التمثيل". المترجم مثل ممثل يلعب دوراً، أو موسيقي يؤدي قطعة موسيقية، أو رسول يحرف الرسالة أحياناً... نحن لا نقول أن عمل الخبز مثل عزف الكمان".

ينتهي الكتاب بخاتمة نقرأ فيها تشبيهات "الترجمة مثل قلب قطعة قماش مطرزة"، و"إذابة مكعب العمل الأصلي وإعادة تجميده"، الى آخره. نكون ممتنين أن تكون الكلمة الأخيرة لسيرلس المترجم الذي يؤكد "عندما أجلس للترجمة لا توجد مجازات". إن الترجمة ممارسة غاية في القدم ومن الصعب أن نقول عنها شيئاً ثورياً، وكتاب "فلسفة الترجمة" لا ينتج لنا أفكاراً جديدة تنظيرياً ولكنه يقدم منها ما هو ضمن السياقات فيدعونا الى اعادة التفكير بالتواصل متعدد اللغات ويقترح: "يجب علينا أن نرى المترجم شخصاً في جماعة مختلفة يقرأ نصاً بلغة وينتج نصاً بلغة أخرى". إنّها ليست فكرة سيئة للأخذ بها.


المصدر 

TLS, February 7, 2025