تمظهراتُ الحسِّ الجمالي في القصيدة المغنّاة

ثقافة 2025/02/20
...

  مهدي هندو الوزني

أقامت وزارة الثقافة والسياحة مهرجان القصيدة المغناة في مبادرة لإحياء هذا القالب الغنائي، وكانت المشاركات تستحق أن تسلط عليها الأضواء في قراءات لهذا الخطاب الغنائي المهم وهو القصيدة المغنّاة ومنها قصيدة (أنسيتني) كلمات الشاعر محمد المحاويلي ولحن المايسترو علي خصّاف وغناء الصوت الواعد رحاب العتال.

مما لا شك فيه أن الحسَّ الجمالي هو اداة الحكم في متعة الإبداع لأنه جوهر العملية الإبداعية، فالمبدع هو من يمتلك هذه السمة الجمالية في تشكيل إبداعه سواء كان شعراً أم لحناً أم غناء، وعند استثارة الحس الجمالي لدى المبدع يتبين لنا مدى جمالية الأعمال الإبداعيّة ومدى تأثيرها في خلق متعة جمالية عند المتلقي، وكما أشار الى ذلك عالم الجمال "جان برتليمي" عندما قال إن "الأعمال الفنية الجميلة تمتع الإنسان بالجمال الذي تغذيه".  

ومن ثمَّ فإنَّ هذه المتعة الجمالية تقابلها قيمة جمالية يمثلها عمل المبدع من خلال المخيلة الخلّاقة التي بدورها تجعل من المجرد رؤية حسيَّة جماليَّة، وهذا ما تمظهر في الأنساق الشعريَّة واللحنيَّة في القصيدة المغنّاة (أنسيتني) التي تضمن خطابها أقصى درجات الحسّ الجمالي.

النص: من المعروف أنَّ القيمة الجمالية لأي منتج شعري هو الصورة الفنية الجمالية والتي تؤطر الشكل في بنائه الفني، خاصة المنتج الشعري الذي يدخل في بوتقة اللحن والغناء فهو يحتاج الى حركية تتضمنها عناصره الفنية اللغوية والدلالية، وهذا يتحدد في أسسه الجمالية التي تغلف النص الشعري ابتداءً من العنوان وحتى آخر النص، عنونة الشاعر محمد المحاويلي نصّه الشعري بكلمة (أنسيتني) التي كانت مركز القصيدة وبؤرتها السرديّة، وهنا اِشتغل الشاعر على جمالية الكلمة ونقصد بها جاذبية الكلمة بنسقها العاطفي وكما قلنا انها تتمركز في سياق فني داخل المتن الشعري ينتج عنه استثارة ومتعة جمالية عند المتلقي الذي ربما يكون قد أتعبته هذه الكلمة يوما ما، لقد اِشتغل الشاعر على جمالية هذه الكلمة من خلال الحس الجمالي الذي يمتلكه والخبرة الجمالية والمرجعية الإبداعية الخصبة في تحويل ما هو واقعي الى ايمائي جمالي فقد وضعها الشاعر في علاقة تجاورية مع الكلمات الأخرى داخل النسق الشعري لإظهار المعنى الكبير للعتاب والفراق واللوعة وبهذه العلاقة التجاورية شكلت بعداً عاطفياً تشكل هو الآخر من خلال الحس الجمالي للشاعر مصوراً عتاب الحبيبة وسؤالها عن الهجر والنسيان وكما نلحظ في هذا البيت: "أنسيتني/ وأنا الهوى وملاذ كل العاشقين/ أنسيتني/ والجرح في قلبي يبادلك الحنين".

لقد أعطى الشاعر المحاويلي ليس قيمة جمالية لهذه الكلمة فقط، وإنما لبقية الكلمات بسبب حسّه الجمالي الذي مكّنه من اختيار الكلمة المحرّكة للنسق الشعري والمنسجمة مع رؤيته في القصيدة.

اللحن: لقد اِشتغل الملحن علي خصّاف على موضوعة الحسّ الجمالي في تلحين هذه القصيدة، إذ خلق معادلاً لذات الاشتغال الذي أسس له شاعر القصيدة محمد المحاويلي، فعند استماعنا للحن القصيدة نلحظ براعة الملحن في تصوير الحالة الوجدانيَّة من خلال مقاربة الميلودي التصويري مع النص الشعري، حيث الغور في أعماق المعنى للكلمة والجملة والعبارة مكوناً بذلك نصّاً موسيقيّاً يتماشى مع النص الشعري في أفقه التعبيري والجمالي. 

لقد اِشتغل الملحن على التكنيك والتكوين الكلاسيكي للقصيدة المغنّاة والذي يعطي للكلمة مساحة أكبر من النغمة ويظهر المعنى المخفي لها كذلك إظهار التعبيريّة اللحنيّة والتي تعتمد العاطفة الوجدانيّة في استثارة المتلقي في الاستماع والاِندماج مع اللحن، لقد بدأ الملحن بمقدمة سلسة بدخول الفرقة في عزف حر أيّ من دون إيقاع ليمهّد لأذن المتلقي الدخول الى عالم الغناء من مقام "الرست" الذي اختاره لكونه من المقامات الطربيَّة والشرقيَّة الأصيلة كما اختار لها إيقاع "المقسوم" لقد بنى الملحن مقدمة القصيدة بشكل سلس وخالٍ من التعقيد يسري الأمر على كافة مقاطع القصيدة المغنّاة، كذلك اشتغل الملحن على لوازم موسيقية سلسة هي الأخرى وقصيرة وواضحة ومثلها كانت القفلات الموسيقية واللحنية، لم يشتغل الملحن علي خصّاف على التكنيك الموسيقي والغنائي الحديث، ولم يلجأ كذلك الى التوزيع الموسيقي المغرق بالهارمونية وهو المايسترو العارف بكل خبايا وزوايا التأليف والتوزيع الموسيقي وله أعمال كلاسيكية من قوالب الكونشيرتو والسوناتة، لأنّه أراد في هذا العمل الغناسيقي أن تظهر معالمه الشرقيّة الأصيلة كقالب موسيقي عربي وأراد كذلك أن يحاكي المعنى لكلمات القصيدة بواسطة الحس الجمالي الذي يتلبّسه ويمتلكه وهذا متأتٍ ربما من تأثره بعمالقة تلحين القصيدة المغنّاة لهذه المدرسة التلحينيَّة التي يمثلها عربيَّاً الموسيقار رياض السنباطي.

لقد كان للانتقالات المقاميَّة والنغميَّة والإيقاعيَّة التي صنعتها قريحة الملحن دور أساسي وبارز في جمالية اللحن العاكس للإحساس الجمالي الذي تتمتع به ذات الملحن التي خلقت توازناً جمالياً وتلاحماً فنياً بين النص واللحن، لقد ترجم الملحن الكلمة المركزية للقصيدة (أنسيتني) الى حالات إنسانية ولكل حالة مقام موسيقي فعند بداية القصيدة كانت الكلمة يرافقها مقام الرست ليبين حالة العتاب وعند صعود الحدث منطقة التوتر العاطفي نلحظ ان مقام الحجاز يرافق هذه الكلمة ليصور لنا حالة الفراق واللوعة والألم والحزن، وهذا التوظيف نابع من الحس الجمالي للملحن الذي يساعده في اختيار المقام المناسب للمعنى العاطفي والوجداني للكلمة.

الغناء: الصوت الواعد رحاب العتّال هي من وقع عليه اختيار الملحن علي خصّاف لغناء هذه القصيدة وصوت رحاب من الأصوات الهامسة الدافئة، وربما هي التجربة الأولى لها في غناء القصيدة، لقد أجادت رحاب الغناء بشكل جميل معتمدة على حسها الجمالي فهي غنت القصيدة بقلبها وعاطفتها مازجة بين هذا التوافق العاطفي الوجداني مع روح النص واللحن، تمتلك رحاب صوتاً تعبيرياً يعتمد الإحساس بالكلمات واللحن ولا يعتمد على عضلات الصوت وهي بحاستها الجماليَّة استطاعت أن توصل رسالة الشاعر والملحن الى المتلقي وتؤكد رهافة ورقة أدائها، اعتمدت رحاب على الصوت المستعار في أداء الجمل الموسيقيَّة الصاعدة أو جمل الجواب وهو ما تذهب إليه المغنيات صاحبات الأصوات الهادئة والهامسة مثل الكبيرة نجاة الصغيرة، وغيرها. أخيراً نقول كان هنالك قاسم مشترك بين هرم هذا العمل الغناسيقي الرائع الشاعر والملحن ومغنية القصيدة ألا وهو الحس الجمالي الذي أنتج هذه القصيدة المغنّاة وأظهرها بجمالية عالية.