السياسة الخارجيَّة العراقيَّة في ظل شرق أوسط متغيّر

د. خالد عليوي العرداوي
ما يحدث في الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر 2023 والى الوقت الحاضر لا يعني مروره بمرحلة غير مسبوقة من الصراعات والتحولات، فالشرق الأوسط كان - وما زال وسيبقى- مركزا للصراعات والتحولات الكبيرة في العلاقات الدولية...
ولذا اعتبرته بعض الدراسات الاستراتيجية واحدا من بين خمس مناطق في العالم ربما سوف تكون سببا في اندلاع الحرب العالمية الثالثة، فيما ربطت بعض النبوءات القديمة مصير البشرية بالأحداث المستقبلية التي سوف تجري فوق ترابه.
إن القاعدة التي تحكم الشرق الأوسط هي أنه يشهد وضعا لا نهاية له من التغيير وعدم الاستقرار، مما يقتضي من الدول التي تتواجد فيه التكيف التام مع ظروف بيئتها الاستثنائية، والاستعداد لكل ما هو غير متوقع. ومن أولويات هذا التكيف هو وجود هوية واضحة المعالم لسياساتها الخارجية.
• ماذا تعني هوية السياسة الخارجية؟
هوية السياسة الخارجية هي مجموعة السمات والمبادئ والاهداف التي تحدد طبيعة ودور دولة ما في محيطها الخارجي، وتعكس القيم الثقافية، والتاريخية، والمصالح الوطنية العليا للدولة، وتؤثر في طبيعة تفاعلها مع هذا المحيط.
وتتحدد هوية السياسة الخارجية لدولة ما بخمسة عناصر رئيسة هي: الوضوح، والشفافية، والاستمرارية، والاستقلالية، والكفاءة المهنية. وهي العناصر التي لا تهملها الدول القوية في تعاملها مع اعدائها واصدقائها على السواء؛ لأنها تحدد من خلالها طبيعة ما ترغب وما لا ترغب، بما يضمن احترام مصالحها من الجميع حتى لو غابت عن جدول الأعمال.
إن وجود هوية خاصة للسياسة الخارجية يعود عليها بمكاسب جمة تتمثل في اكتسابها للصفات الاتية: المصداقية، والقوة، والفاعلية، والقدرة على التأثير، وأخيرا الجاذبية وسهولة الاقناع عند التفاوض لتحقيق الأهداف والمصالح العليا للدولة.
• مشكلة الهوية في السياسة الخارجية
افتقرت السياسة الخارجية العراقية منذ تأسيس العراق الحديث 1921 للهوية الخاصة بها، اذ تم تشويهها وتحييدها كقوة ناعمة مؤثرة، فيما احاطتها الشكوك وعدم الثقة من محيطها الخارجي، فكانت نتائج ذلك كارثية على دورها وأدائها وتأثيرها، والأسباب الكامنة وراء ذلك كثيرة، لعل أبرزها:
1- تقاطع المصالح والصراعات الشخصية بين بعض قيادات الدولة.
2- التناقض الأيديولوجي الداخلي، الناجم عن تعدد الأحزاب والقيادات السياسية واختلاف مبتنياتها الأيديولوجية.
3- غياب الهوية الوطنية العراقية الجامعة، فالقاعدة المعروفة ان قوة أو ضعف السياسية الخارجية ما هو الا امتداد لقوة أو ضعف بيئتها الداخلية، وأن السياسات المتعاقبة في إدارة التنوع والاندماج ترك ظلاله القاتمة على هوية سياسته الخارجية.
4- المزاجية السياسية في إدارة السياسة الخارجية، وتبدو ملامح هذه المزاجية في عدم احترام بعض القيادات السياسية للاتفاقيات والمواثيق الدولية الملزمة للعراق، اذ غالبا ما يتم خرق هذه الاتفاقيات والمواثيق بسبب مواقف متهورة ومستعجلة مرتبطة بمزاجية هذه القيادات، وعدم فهمها لما تقتضيه السياسة الخارجية من مصداقية وثقة في محيطها الخارجي، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك وأكثرها تدميرا وازعاجا موقف قيادة البعث المخلوع من اتفاقية الجزائر مع إيران سنة 1975.
5- اهمال كفاءة الموارد البشرية العاملة في وزارة الخارجية، فغالبا ما كان الولاء مقدما على الكفاءة عند اختيار أعضاء السلك الدبلوماسي.
• تفعيل دور السياسة الخارجية
إن اكتساب السياسة الخارجية العراقية لصفات: المصداقية، والقوة، والفاعلية، والقدرة على التأثير، والجاذبية لتواكب تطورات الأحداث في الشرق الأوسط لن يتحقق من دون توفير جملة من المرتكزات الأساسية، ومنها:
- وجود هوية واضحة للسياسة الخارجية، فبدونها يبقى تعامل الفواعل الإقليمية والدولية مع السياسة الخارجية العراقية يشوبه الشك، والصعوبة التفاوضية حول جدول اعمال مشترك يراعي مصالح العراق العليا.
- منح وزارة الخارجية الصلاحية الكاملة لوضع وتنفيذ السياسة الخارجية العراقية، بعيدا عن أي تدخلات أو ضغوط داخلية أو خارجية.
- المصالح العليا لها الأولوية على الأيديولوجيات والاصطفافات السياسية؛ فالأيديولوجيات والاصطفافات تغلب عليها صفة الجمود وعدم المرونة أحيانا، وصفة الانحياز والفئوية أحيانا أخرى، اما المصالح فهي متغيرة وتحكمها موازين القوة والظروف السائدة، وهي لا تؤمن بثبات الخنادق بين الأصدقاء والاعداء.
- انفتاح وزارة الخارجية على المؤسسات الاكاديمية والمراكز البحثية، المحلية والدولية، والاستفادة من كوادرها في تبادل المشورة والخبرة، وتحديد الخيارات المختلفة المتاحة أمامها.
- التحول من مرحلة الشراكات الآنية إلى مرحلة الشراكات الاستراتيجية طويلة الأمد مع القوى الفاعلة الإقليمية والدولية، وبما يساعد العراق على تحقيق مصالحه العليا، بصرف النظر عن مسمياتها، فمع خطورة التحديات وتسارع التحولات تصبح مثل هذه الشراكات اشبه بطوق نجاة لبلوغ شواطئ الأمان، حتى ولو بقي العراق محافظا على حياده الإيجابي الخارجي.
- تجنب الانغماس في الاحداث الخارجية التي لا يمكن التحكم بها، فالعراق دفع ثمنا غاليا في المائة سنة الماضية من سلامه، واستقلاله، ووحدته، وتطوره، نتيجة انغماس بعض قياداته غير المسؤول في مثل هذه الاحداث، وعليه اليوم لعب دور صانع السلام والاستقرار الإقليمي والدولي، وان ينطلق تدخله في الاحداث المحيطة به من هذا الدور.