علي لفتة سعيد
لم تزل الأحزاب في العالم العربي تعتقد أن السياسة هي تحقيق الأرباح في أيّ عملٍ يمارس في ظلّ الفكر السياسي العربي بالعموم والعراقي بالخصوص. فالسياسة ليست عملية صناعة فكرٍ يُقنع الآخرين من الشعب بهدف الوصول إلى السلطة عبر برنامج سياسي له أهداف وشعارات وممكنات تحقيق وغايات مستقبلية وعوامل تفكيك الحاضر، الذي أُنبِتت عليه الأفكار السياسية. بل هي سياسة فرض الأمر الواقع من أن السلطة هي حصاد جهاد ومواقف ورمز شخصيات. ولهذا نرى أن جميع التجارب الحزبية التي شهدها العالم العربي والعراقي باءت بالفشل لأن ليس لها برامج إلا برنامج السلطة وتحقيق المكاسب الحزبية التي تتطلب في الكثير من الأحيان التحول من سياسة الخدمة إلى سياسة المحافظة على السلطة وما يُطلق عليه كرسي الحكم، ومن ثم العمل على مواجهة كل مَن يعارض الحكم وينتقد العمل السياسي، وهو الأمر الذي يؤدي إلى حصول مواجهة تتطلب من جهة أخرى محاولة تسقيط الآخر المعارض، ومن ثم إقناع الشعب بأنهم يريدون قتل الحكم بالاتفاق مع جهات معادية تكون مرسومة دومًا في الأذهان. وقد تم ترسيخ مفهوم الكراهية عبر سنوات الحكم، مما يؤدي إلى اتساع الهوة بين الحكم والشعب، وبين السياسة ومفهومها. فيحدث الاضطراب الذي يبدأ بمشكلة أو تفاعل أو انتقاد لتكبر وتتحول إلى صراع هويات ووجود واستمرار السلطة.
تختلف السياسة في المفهوم العربي عن السياسة في مفاهيم دول العالم الأخرى التي تعتمد في أولها على التبادل السلمي للسلطة وتقديم الخدمات من خلال تحقيق البرنامج الحزبي أولًا، وبرنامج الحكم في تقديم الخدمات. وهما فاعليتان مهمتان في دعم البقاء في السلطة والاستماع إلى نقد الآخرين والمعارضين والعمل على تصحيح المسار، والاختلاف مع المعارضين بطريقة سلمية حتى لا يتم انتخاب الجهة المعارضة لتكون في السلطة القادمة.
إن السياسة في منطقتنا سياسة مفاعيل عاطفية تستغل العاطفة على حساب العقل، لذا تكون عملية التجهيل للشعب وقتال الروح البنّاءة والعمل على تغييب العقل، وتسقيط الوعي الثقافي والسياسي المقابل كلما طال أمد الحكم والتشبث بالسلطة. حينها يكون الحكم شبيهًا بالوراثة، وتكون الانتخابات صورية، فيما تكون القبضة أقوى من الحديد، مستندين في ذلك إلى كمية الجهل في المجتمع التي تعتقد أن إبقاء السلطة هو إبقاء لهم وإبقاء للطمأنينة، حيث سيكون التغيير - إذا ما حصل - كارثيًا داخل المجتمع ذاته، لأن تعدد المسالك المعارضة يؤدي إلى تعدد الرؤى والأفكار التي تعتمد على استغلال ما هو قائم في المجتمع، كأن يكون الدين أو السياسة الماكرة للحزب التي تمارس دور إعلاء الصوت بأن السلطة أصبحت غاشمة، وإظهار المجتمع على أنه معرض للموت والقتل اليومي. وهي حقائق صحيحة، لكنها لا تُستخدم من أجل التغيير نحو الأحسن، بل تتحول إلى برامج سيادية عاطفية، ويحضر التاريخ كقوة دافعة، فيما تشتغل سياسة القمع التي تتحول هي الأخرى إلى أداة فاعلة حين تستلم المعارضة السلطة، لأنها - أي السلطة الجديدة - ليست لها أهداف سياسية مجتمعية بقدر ما لها سعي لإسقاط الحكم واستلامه. وبالتالي تدور عجلة فهم الحكم على أنه تحقيق مكاسب حزبية على حساب المكاسب المجتمعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهو ما يعني بقاء دوامة الحكم التعسفي، والذي يبدأ بنغم محمود سرعان ما يتحول إلى قبضة استخباراتية وهتافات (إبقائية).
إن بقاء مفهوم السلطة على أنه حق لمن يصل إلى الحكم لن يحقق ما يصبو إليه الشعب للعوامل التي أصبحت معروفة، ومنها قوة السلطة، واستغلال الدين، وتسقيط المعارضة، وإلصاق التهم بها من أنها مخالفة للعقيدة والعرف الاجتماعي، وأنها ستحوِّل المجتمع إلى بنية معاكسة له وما عُرف به طوال آلاف السنين. ومن ثم استغلال الطبقة (الأمية) من المجتمع ليكونوا قوة في الصوت وقوة في المواجهة والتصفيات.