طالب سعدون
منذ العشرين من كانون الثاني الماضي (موعد تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية) وتصريحاته النارية تعصف بالعالم (أوربا وروسيا وأوكرانيا والصين والشرق الأوسط وفلسطين)، وليس في داخل بلاده فقط.. تتواصل وتتصدر الأخبار والتحليلات وشبكات التواصل وتحظى بمتابعة جدية من الشارع الشعبي والسياسي، تطغى عليها مخاوف وتحسبات لما تؤول إليه قراراته ومشاريعه، لم يكن رئيسا عاديا بتسلسل 47 بل كان فيها صانعا لأحداث متلاحقة قد يواجه فيها العالم وفي مقدمتهم حلفائه الأوروبيين.
خطوات لم تعتد عليها بلاده ولا حزبه (الجمهوري) الذي يمثل التيار المحافظ في أمريكا.. أفكاره غريبة.. فيها من المتناقضات والمفاجآت والتحديات ما بجعلها أمام صعوبات في التطبيق قد تصل إلى حد الاستحالة، وقد ترتد عليه بآثار خطيرة ربما تنتهي به قبل أن يبدأ بتطبيقها وهو في بداية ولايته الثانية.
يبدو في مواقفه انه إلى الآن بعيد عن السياسة واقرب إلى (خلفيته الشخصية المغامرة) وتجربته المالية (والمهنية كرجل أعمال) و(الممارسة العقارية الطويلة التي تقوم على الصفقات).. فهي في نظر مراقبين لا تمت بصلة إلى أيديولوجية معينة ولا مدرسة نظرية ولا إلى دبلوماسية وأعراف دولية وتقاليد الرئاسة والأصول الحزبية المتعارف عليها عبر التاريخ فقد يصبح بسببها عرضة لنقد ومساءلة أعضاء في الحزب ونهاية لا يتوقعها أو يمضي به الغرور ويتحول إلى رئيس مدى الحياة كما توقعت في مقال سابق في الصباح ( 13-2-2025) عندما اعجب وهو يمزح بتجربة الصين التي تخول الرئيس ( شي جين بيتغ ) يان يكون رئيسا مدى الحياة فقد يحول هذه المزحة إلى حقيقة.. وهذا ما أشار إليه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان ( 21-2-2025 ) في مقابلة معه بدا فيها غير متفائل من الطريقة التي ينتهجها ترامب في تعامله مع قضايا مثل (الحرب في أوكرانيا وخطته لتهجير الفلسطينيين) ووصفه ( بأنه شخص يسعى إلى أن يصبح رئيسا مدى الحياة).
تصريحات ربما تلخص طريقة تفكيره. وهي أفكار كثيرة لتغيير الولايات المتحدة وتحقيق شعاره (أمريكا أولا ) بلمسة على (زر الكتروني) خلال مدة قصيرة.. امتد بها على (الأعداء والمنافسين والأصدقاء والحلفاء).. على مساحة العالم وكانه (إمبراطور استعماري) لعصره ويحق له أن يكون صاحب مدرسة خاصة به.. لم تقتصر أفكاره الغريبة على قضية فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط فقط بطرح فكرة (جهنمية) تنسف كل القرارات الدولية ومشاريع التسوية و(السلام) وخطوات التطبيع بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن وعندها يكون قد أنهى إلى الأبد فكرة (حل الدولتين) المطروحة، التي خضعت للتسويف والمماطلة على مدى عقود وأحيتها حرب غزة (الطوفان) ووضعتها في الصدارة من جديد إلى أن جاء ترامب ليحقق رغبة اليمين الإسرائيلي بإجهاضها. وهذا محال... وقد رافق هذا المقترح تهديد وتلويح باستخدام سلاح المساعدات إذا ما رفضت الدولتان استقبال اللاجئين. فما هي الوسائل التي تمتلكهما للرد على هذا التهديد؟ كانت الدعوة إلى قمة عربية في مقدمتها، ولكن هل تخرج بقرارات بمستوى خطورة الموقف أم تكتفي بالشجب والاستنكار والدعوات؟
نامل ونرجو أن تناسب قراراتها اذا ما عقدت الحدث وآثاره الخطيرة ليس على قضية فلسطين بل المنطقة عموما. ثم أدار ترامب وجهته إلى حلفائه الأوربيين.. فعلى قصر مدة استلامه الولاية الثانية شهدت العلاقات بينهما حالة غير مسبوقة تمثلت (بتهديدات تجارية وضغوط عسكرية واقتصادية) قد تؤثر في العلاقات بينهما في عهده منها تهديده بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 بالمئة من واردات الألمنيوم والصلب ورسوم أخرى على البضائع والمنتجات من أوروبا علها تسهم في قوة الاقتصاد الأمريكي.. لكنها وان كانت لها خسائر على أوربا بحدود (200 - 350 مليار دولار)، لكنها بالمقابل لها انعكاسات على الداخل الأمريكي فربما تزيد من التكلفة على الشركات والمواطن الأمريكي وتثقل كاهله.
ومن الملفات الأخرى في هذه العلاقة الإنفاق العسكري، فقد طالب ترامب أوروبا بزيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى 900 مليار دولار بدلا من 480 مليار دولار سنويا، على الرغم من كونها مشاركة في حلف الناتو في حين تنفق الولايات المتحدة 968 مليار دولار.
ملفٌ آخر أثار قلق أوربا وحفيظتها أيضا بإقدام ترامب على إجراء مفاوضات مع روسيا حول الصراع في أوكرانيا دون مشاركتها واتهام أوكرانيا ببدء الحرب وأنفاق أمريكا على الحرب والتفاوت بينها وبين أوروبا.. الخ من التصريحات والتصريحات المقابلة من الرئيس الأوكراني حول حجم المساعدات وغيرها ومن المعنيين، وما تناولته التقارير الإعلامية والدراسات بصددها.
مقابل تلك الأفكار التي اشرنا إلى بعضها لا يمكن أن تقف أوربا مكتوفة الأيدي أمام ترامب في سياسته الجديدة، التي عبر عنها بشعار (أمريكا أولا)..فلدى أوروبا من البدائل والوسائل الكثير في مقدمتها الاعتماد على إمكاناتها الذاتية (صناعة وأسواقا خارجية) وستخلق حالة التحدي لديها قوة تنافسية تنفتح بها على العالم كما فعلت الصين بتوسعها الكبير ودخولها الأسواق العالمية بقوة وتميز وفي مختلف المجالات. فإلى أين تسير العلاقة بين أمريكا والعالم؟ ربما تبدو ملامحها وبعض نتائجها خلال المئة يوم من ولاية ترامب الثانية.