الفيلسوف الباكي

الصفحة الاخيرة 2025/02/27
...

طه جزاع

من بين عدد كبير من فلاسفة اليونان القدماء، الذين طغت الطبيعة على فلسفتهم قبل أن يحول سقراط مجراها إلى الإنسان الذي عليه أن يعرف نفسه أولاً، يبقى هيراقليطس الأفسوسي الذي وُصِف بالفيلسوف الباكي أو الغامض أو الحزين، من أكثرهم تأثيراً في مسار الفلسفة اللاحق وصولاً إلى العصور الحديثة، على الرغم من مرور أكثر من ألفين وخمسمئة وستين عاماً على ولادته في مدينة أفسوس الواقعة في آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، وكانت من المدن اليونانية القديمة التي أصبحت اليوم وجهة سياحية تابعة لمدينة سلجوق بمحافظة أزمير، وبالقرب من بحر إيجة الفاصل بين تركيا واليونان. 

اشتهر هيراقليطس بعباراته الغامضة التي صاغها على شكل شذرات بقيت منها مئة شذرة تقريباً يتداولها المشتغلون بالفلسفة، على الرغم من غموضها، وفُسرت على مر الزمان تفسيرات متناقضة، بل إن بعض شذراته يحفظها غير المهتمين بالفلسفة، ومنها مقولته الشهيرة: "إنك لا تنزل النهر مرتين"، دليلاً على الصيرورة والتغير الذي تمثله النار في طبيعتها المتحركة، وهي التي وجدها هيراقليطس أصلاً للكون ومفسراً لتحولات المادة وأشكالها في الطبيعة، بعدما قال الفلاسفة الذين سبقوه بالماء والهواء والتراب أو الأبيرون اللامحدود واللامتناهي. من أهم الكتب التي صدرت عنه كتاب الباحث اليوناني ثيوكاريس كيسيديس "هيراقليطس جذور المادية الديالكتيكية"، ترجمة حاتم سلمان، وفيه شرح وافٍ لمفاهيمه الفلسفية وأسلوبه في المتناقضات والغيبيات والنار والروح والكون، وتأثيراته في الفلسفة، ومنها الماركسية اللينينية، إذ يعدهُ لينين أحد مؤسسي الديالكتيك.

بقيت شذرات الفيلسوف الباكي وعبارته الغامضة، عرضة لتفسيرات متناقضة، وهذا سر من أسرار فيلسوف النار، الذي كان أرستقراطياً سلبياً كما يصفه مواطنه الباحث اليوناني.