تاريخ المرايا ومرايا التاريخ

ثقافة 2025/03/02
...

  د. سمير الخليل


منذ الاستهلال الدال تضعنا "رواية تاريخ المرايا" للروائي علي لفتة سعيد إزاء أجواء الحرب والسياسة، إذ تبدأ من ذروة عام (1985) الذي شهد تصاعد القتال لحرب الثماني سنين، وتداعياتها المدمّرة والكالحة، وقد اتّسمت هذه الحرب بالعبثية وحجم البشاعة والموت المجاني، وإصرار النظام السياسي السابق على استمرارها والكشف عن وحشيّته وتمركزه الاستبدادي، وأصبح لا يُعير أهمية لمعنى الخراب، وموت الآلاف من الشباب وتحطم البنية التحتية للواقع، وانهيار الوطن. 

وتؤرخ الرواية في بعدها التاريخي تجلّيات هذا الخراب بدءاً بالحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب الكويت، ومن بعدها الحصار الجائر ثم الاحتلال البغيض والغزو الأميركي وحلفائه في 2003 فضلاً عن توثيق أحداث مفصليَّة أخرى، كانتفاضة (1991)، وأحداث النجف وسنوات الإرهاب والتفجيرات الدمويّة، والتمزّق الاجتماعي، وتفكك المنظومة للمكونات الوطنية، وحدوث الاحتراب الداخلي، وحرب الهوّيات، والصراع الطائفي البغيض، والتناحر الديني، وحدوث هذا الاختلال والنكوص جاء كأحد إفرازات الاحتلال الإنكلو- سكسوني، وصعود اليمين المتطرّف لإشاعة حروب العولمة، وتمزيق الشعوب وإعلاء شأن الهويات الفرعية الضيقة والكشف عن سيناريو لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط وإثارة النعرات المكوناتية وإشاعة الفكر الظلامي الداعشي بوصفه صناعة أميركية، وعلى وفق هذه المعطيات نجد الرواية تمزج بين أدب الحرب وبين التوثيق التاريخي، وتتتبع مسارات الصراع والعنف والأحداث الدراماتيكيّة على مدى أكثر من ربع قرن، لكنّ وعي وتداعيات السرد - روائياً وتاريخياً- كان يركّز على ساديّة ووحشية وحماقة النظام الاستبدادي الذي يمثّل البؤرة السوداء التي أنتجت كلّ هذا الكم من التمزّق والضياع والعسكرة وتدنّي القيم وانتشار العنف العبثي الذي يكشف عن السعار الآيديولوجي.

ولم تكتفِ الرواية بهذا المحمول السياسي والتاريخي والفكري بل لجأ الكاتب إلى استثمار كثير من الظواهر الفنيّة والتقنيات السرديّة لكسر خطّية الخطاب المباشر ومزالقه، ومنها رسم ملامح المتن الحكائي، وتداخل الأزمنة، ورسم ملامح الشخصيّات الرئيسة وتوظيف الفعل على مستوى الحكي للشخصيّات الثانويّة، وتفعيل تقنية الحوار، واعتماد البنية الثلاثيّة للبداية والذروة والنهاية، وتعميق المسارات التي تربط الأحداث والتركيز على المعنى الإنساني لكينونة الإنسان بوصفه محور الواقع، وإدانة الخراب بكلّ تجلّياته وتحولاته، وتراكماته، والكشف عن القبح، قبح الاستبداد الشمولي، والحروب العبثية اللاهدفيَّة، والغزو بوصفه هوساً عولميَّاً، وانتاج قيم الاستحواذ الغربي ونرجسيّة التفوّق والبحث عن مساحات جديدة لترسيخ مفهوم الاستقطاب الأحادي.

ويبدو أنَّ الرواية منذ عنوانها تحيل إلى التاريخ (تاريخ المرايا)، وتحيل إلى صراع الأفكار وتحاور المرايا وضياع الحقيقة، من خلال اختلاف المواقف ووجهات النظر فالأنظمة (التوليتارية) تنظر إلى الحياة من منطلق امتلاكها الحقيقة المطلقة، وتنفيذ مصالحها النفعية، والشعوب تنظر إلى الحقيقة وأبعادها الإنسانية وصيرورتها القيميّة، بل حتى الشخصيات داخل الرواية بوصفها (مرايا) ترتكز على الحوار وكلّ يرى الصورة من وجهة أو زاوية محدّدة، وقد يتسع المعنى أو الدلالة ليجعل المرايا صفة للجمال أو الصورة البهيّة التي تتعرّض إلى القبح والتهشيم والضبابيّة، فالمرآة تعكس أيضاً الأحداث وكأنّ الروائي يرمز لها بتاريخ المرايا أي تاريخ التوثيق ورصد الأحداث.

وعبر ذلك تحقّقت وظيفة العنوان بوصفه النص الموازي الذي تضمّن تعدّد الإحالات الدلالية، ولم يكن عنواناً مباشراً بل يسعى إلى تشكيل صورة مجازية للمعنى الكلّي للرواية الذي يحيل إليه العنوان المتشكّل على المستوى التركيبي من الجملة الاسميّة المكونة من المضاف والمضاف إليه، والربط الدلالي بين مفردتي التاريخ والمرايا، وتعميق المعنى الذي تتضمنه مفردة (التاريخ) من جذب ومعنى سياسي، وإدماجها بمفردة جمالية صالحة للتأويل (مرايا)، فالمرايا مساحة عاكسة للجمال والقبح والوضوح والتشوّه، وهي تمثّل إحالة إلى الصورة المركّبة والمتناقضة، فهي حامل لمحمولات متعدّدة ومتضادة.

ومن الظواهر الفنية اللافتة في الرواية هي انحيازها إلى التوثيق الدلالي البعيد عن الأرخنة الرسميّة التقليديّة لذا لجأت الرواية إلى وضع عنوانات الفصول على شكل إشارة رقميّة للسنين لتكون إحالة ضمنيّة إلى الأحداث ووضع الإطار الزمني كأحد موجّهات القراءة والاشتباك بين الأحداث وذاكرة المتلقيّ، أي أنّ المفتاح لكلّ فصل كان العنوان الذي يشير عبر تثبيت التحديد الزمني ليكون بؤرة للإحالة والتعريف، ولم يلتزم الكاتب بالتراتبيّة الزمنيَّة والتاريخيَّة، بل عمد إلى أسلوب التداخل بين أزمنة مختلفة، وكسر خطيّة الزمن الطبيعي بإيجاد تسلسل اعتمد ثنائيَّة الاستباق والاسترجاع بصيغة المفارقة الزمنيَّة بحسب مصطلح "جيرار جينيت"، وما يكشف هذا التوظيف إلى تأسيس بنية الإيقاع المرتبط بالأحداث والشخصيّات والمعنى الضمني والابتعاد عن السرد التاريخي المحض لأنَّ الروائي يملأ فراغات المؤرّخ، وتوظيف عنونة الفصول يحيل إلى العنوان نفسه وتوكيده على التاريخ، لكنّ التاريخ لم يكن بمعناه التقليدي والكرونولوجي، وهذا الخرق في صنع الترتيب الزمني عكس المعنى القصدي وتداخل النسق التاريخي وأزمنته، وارتباطه بتطوّر الأحداث وتناقضاتها، وما يعبّر عن العلاقة بين منطق الأحداث وتناقضاتها، وما يعبّر عن العلاقة بين منطق الأحداث وتناقضاتها وانعكاس المعنى المرتبط بثنائيّة السبب والنتيجة .

هناك إحالة ذكيّة تتمثل في المنطق التاريخاني الذي يكشف عن عوامل التأثّر والظروف المنتجة للخراب وتداخلها وتعميق المعنى الإحالي من ظرف إلى آخر على وفق المقدّمات والنتائج، فالاستبداد القروي العشائري وهوس الآيديولوجيا أدى إلى الحروب والعنف، وعسكرة الحياة ممّا أدّى إلى الحصار والمغامرات الحمقاء والحروب الداخليّة مثل حرب الشمال والعنف ضد ثقافة المكونات وطقوسها ومحو هويتها، وكل هذه المقدّمات هي الممهّد الحقيقي لحدوث دراماتيكية وعبثية الاحتلال وسلب حرية الأوطان.