محمد غازي الأخرس
ومما توقف عنده الجاحظ، موقف العرب من المعلمين واحتقارهم لهذه المهنة العظيمة، تماما كاحتقارهم للمهن عموماً وترفعهم عليها، ذلك أنهم أهل سيف وغزو ومنهجهم في الحياة أن يغيروا ويغنموا من الآخرين الأضعف منهم، لهذا تراهم يحتفون بكثرة الولد ويزدرون الإناث اللواتي يعيرون بهن. يذكر الجاحظ أن من أمثال هؤلاء العرب المعروفة قولهم: أحمق من معلم كتّاب، وذكر هذا المعنى شاعر يدعى صقلاب بقوله: وكيف يرجى الرأي عند من .. يروح على أنثى ويغدو على طفل.
يضيف الجاحظ قول بعض الحكماء أن "لا تستشيروا معلما ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء"، وقولهم أيضاً عن الولد إن:"لا تدع أم صبيك تضربه فإنه أعقل منها وإن كانت أسن منه". أما كثير القعود عند النساء فهو الحائك والنداف، وبائع الخضرة والبزاز . قبل أيام فوجئت بمقدم برامج "كشكولي" يبدي استغرابه من شاب أخبره أنه يبيع الملابس النسائية، ولما أصر الشاب على أن لا ضير من ذلك، ارتبك المقدم وشرع يتهرب بزعم أنه يمزح، في حين أنه لم يكن يمزح بل كل ماجرى أن لاوعيه الداخلي خرج في لحظة مباغتة وفضح قيمه النسقية، منها احتقار المهن التي تكون على تماس مع النساء.
في هذا السياق، يتحدث ابن خلدون عن احتقار الأعراب للصناعات، جميع الصناعات، واكتفائهم بالسيف، "فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم"، لهذا حين أسّسوا أعظم المدن كبغداد والبصرة، تركوا المهن للموالي الذين كانوا يعيشون في ظلهم، وبقي هذا النسق شغالاً لقرون طويلة، فالباعة والمزارعون والنساجون ومعلمو الصبيان كلهم محتقرون، ومنبوذون، وثمة حكايات لها أول وليس لها آخر بهذا المجال، أهونها ما ذكره الجاحظ في أول هذه المقالة فتأمل.