نبيه البرجي
نتوقف للتأمل عند نظرية الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر “حين تحاول إمبراطورية ما أن تظهر بأقصى قوتها، وتتعامل مع البلدان الأخرى على هذا الأساس، لن يستغرق غروبها أكثر من الوقت الذي يستغرقه الانتظار في محطة القطارات”. لكن دونالد ترامب واثق من أن الإمبراطورية الأميركية باقية ما بقي الكون، لتكون مهمتها إعادة تشكيل، أو إعادة، إنتاج العالم. من مكان ما تتناهى الينا أما قهقهات التاريخ، أو قهقهات الشيطان. حين يصل الأمر بكيرتيس يارفين ـ عراب الايديولوجيا الجديدة “التنوير الظلامي”، والمرشد الفلسفي لايلون ماسك، والذي يدعو إلى إزالة الديمقراطية من العالم ـ إلى الترويج لصديقه دونالد ترامب، كونه المبعوث الإلهي الذي أنيطت به مهمة اعادة ترتيب الأزمنة، بعدما بدت الكرة الأرضية وكأنها اقتربت إلى أدنى مسافة من الجحيم. في القارة العجوز يرون في الرئيس الأميركي احدى شخصيات اللامعقول في مسرحيات الكاتب الايرلندي صمويل بيكيت، تاركين التعليق لمن لا يرى فيه نائب المسيح وانما نائب يهوذا. علينا أن نكون مصابين بالبارانويا لكي نعرف ما نظرة ترامب إلى العالم. شيء ما أقرب ما يكون إلى الهذيان الاستراتيجي، لنسأل أي نوع من الثعابين يلعب في رأسه حين تكون سياساته الرقص على رؤوس الثعابين؟ عالم أكثر تعقيداً بكثير من أن يكون رقعة لحجارة الشطرنج. هذه هي حال الشرق الأوسط حين لا يرى ترامب في سكان غزة سوى بضاعة بشرية يمكن نقلها بالشاحنات إلى أي مكان، ودون أي اعتبار لكون ترابهم يلحق بهم أينما حلوا، ولم يأتوا إلى هنا بالبواخر بدعوة من تيودور هرتزل أو بدعوة من دافيد بن غوريون. زئيف جابوتنسكي قال إن ثمة “عربات من السماء هي التي تولت نقلهم إلى “أرض الميعاد”. الآن يحكى عن أولئك الاسرائيليين الذين يقتلعون الاسرائيليين من أرضهم، بتحويل الدولة إلى مقبرة، بدل أن تكون الفردوس الذي لا أثر فيه لثقافة الدم أو لجنون الدم.
في أميركا، ضوضاء في الخارج وضوضاء في الداخل. “الواشنطن بوست” تكاد تسأل “ومتى الانقلاب العسكري في أميركا ؟”. ترامب أزاح رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال تشارلز براون ورئيسة العمليات البحرية الأميرال ليزا فراتشيتي بدعوى “تعطيل سياسات التنوع، والمساواة، والاندماج ـ كمقتضيات كلاسيكية لبناء مؤسسة عسكرية لا تقاد بطريقة رعاة البقرـ على حساب مسؤولياتهم الأساسية تجاه الجيش والمتعلقة بالقتال والانتصار في الحروب». الصحيفة رأت أن ما حدث تسييس للجيش، ما يعني تعريضه للتخلخل البنيوي، وتفلت الرغبة في السلطة. بالتالي زعزعة وحتى تقويض القواعد الدستورية للبلاد. غير أن ما ضجت به مواقع التواصل كان مدوياً حين ربطت بين اقالة براون ولونه الأسود، خصوصاً وأن هذا الأخير تحدث، عام 2020، في مقطع فيديو نشره الجيش بعد مقتل الزنجي جورج فلويد بيد شرطي أبيض، عن التحديات التي واجهها هو نفسه كضابط أسود في جيش يهيمن عليه الضباط البيض. حالات اقالة قليلة حدثت. هاري ترومان أقال، عام 1951، الجنرال دوغلاس ماك آرثر لأنه دعا إلى استخدام القنبلة الذرية في الحرب الكورية. باراك أوباما أقال، عام 2010، الجنرال ستانلي ماكريستال اثر نشر مجلة “رولينغ ستون” مقالاً استخف فيه أعضاء هيئة الأركان بأوباما ونائبه جو بايدن. لنتصور ما يمكن أن يحدث اذا ما تشكلت تلك الهوة بين البيض والسود داخل المؤسسة العسكرية، بعدما بذلت جهود هائلة للحؤول دون ظهور أي ثغرة من هذا القبيل من خلال تعيين الجنرال كولن باول، عام 1989، رئيساً لهيئة الأركان، ليتكرر ذلك مع تشارلز براون، عام 2023. اثنان من أصل واحد وعشرين، مع الاشارة إلى أن وزيراً اسود وحيداً هو لويد أوستن شوهد في البنتاغون.
الآن تتحدث التعليقات الألمانية عن “رقصة الفيلة فوق ظهورنا”. اسئلة نارية وتتكاثر حول ما اذا كانت أوكرانيا هي البداية كأضحية روسية أم أضحية أميركية. تقول إن هذا البلد كان يمكن أن يكون الجدار الفاصل بين القيصر وأوروبا. رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان قال “ما تبقى من أوكرانيا سيصبح مرة أخرى منطقة عازلة بين روسيا وحلف الأطلسي. الألمان يسألون... منطقة عازلة أم منطقة منكسرة ؟ صحف أوروبية أخرى ذهبت إلى أبعد من ذلك حين اعتبرت أن الرئيس الأميركي يعاني من “اصابة فرويدية في الرأس”. انه يكره الأوروبيين. أوروبا، في نظره، بفوضويتها الفلسفية، لم تعد تصلح أن تكون الحصان الأميركي. رؤية عرجاء للرجل الذي لا يدري بأنه هكذا يترك القارة عارية أمام الدببة القطبية. ولكن لينتبه، وكما تقول “لوفيغارو”، أميركا هكذا “أمبراطورية حافية القدمين”.