سعد العبيدي
تنشأ المدن، جميع المدن، وتكبر وتتوسع، فتتكوَّن لها صور نمطية في ذاكرة أهلها تدفعهم إلى التعود عليها، وغالبًا ما يعكس ارتياح السكان لصورة مدينتهم أثرًا إيجابيًا في تعاملهم معها من حيث النظافة، والصيانة، والاهتمام بتراثها وآثارها وتاريخها.
كانت صورة بغداد في ذاكرة أهلها وباقي أبناء العراق مريحة ومليئة بالحياة لعقود طويلة من الزمن. فقد ارتبطت هذه المدينة النابضة بالحياة بجمال معمارها، وأصالتها، وحدائقها الغنّاء، وأحيائها القديمة التي تحمل عبق التاريخ. لكن هذه الصورة بدأت تتغير تدريجيًا منذ تسعينيات القرن الماضي، حين دخلت بغداد مرحلة من الإهمال والتغيرات، شهدت موجات هجرة واسعة من باقي مدن البلاد، وغادرتها العديد من العائلات البغدادية التي لطالما شكلت جزءًا من نسيجها الاجتماعي والثقافي، مما أضعف الروابط التقليدية التي كانت تربط السكان بالمدينة. بالتزامن مع ذلك، ارتفع عدد السكان بشكل ملحوظ وتوسعت الجغرافيا العمرانية للمدينة العاصمة، مما أدى إلى ازدحام خانق ومشكلات خدمية.
حاولت الدولة معالجة مشكلة الاختناقات المرورية، أحد أهم مشكلاتها القائمة في الوقت الحاضر من خلال بناء المجسرات. ورغم أن هذه الخطوة ساعدت في تخفيف بعض الأزمات، إلا أنها غيّرت ملامح المدينة التقليدية، حتى أصبح من الصعب على من يغيب عن المدينة لعدة أشهر من أهلها أن يتعرف على بعض معالمها أو يستدل على وجهته بسهولة، ما أوجد إحساسًا بالغربة داخل مدينتهم نفسها.
ربما لو توجهت الدولة إلى حلول بديلة مثل إنشاء الأنفاق — رغم صعوبتها التقنية وتكلفتها الأعلى مقارنة بالمجسرات — لكانت قد نجحت في التخفيف من الازدحامات المرورية، مع الحفاظ على الطابع الجمالي والمعماري لبغداد، صورة في الذاكرة ليست مجرد معالم وشوارع، بل هي إحساس بالانتماء والهوية. مع الأخذ في الاعتبار ضرورة أن تكون عمليات التطوير والتوسع متوازنة بين الحاجة إلى التحديث والحفاظ على روح المدينة التي طالما سكنت قلوب أهلها، وباقي أبناء العراق.