محمد صابر عبيد
تحتلّ المدن ذات الطبيعة الشعريَّة الضاربة في حساسيتها المكانيَّة المدهشة والخصبة مكانة استثنائية مهمة وحضورا لافتا في قصائد الشعراء، لما تنطوي عليه من كثافة مكانية حضارية مثمرة تنفتح على رؤية شعرية ذات خزين وجداني وثقافي لا ينضب، ومدينة الموصل واحدة من هذه المدن التي لم تغب عن قصائد الشعراء منذ أن تشكّلت مدينة لها لونها الخاصّ، فهي مدينة ملوّنة وفسيفسائية على مستوى النسيج الاجتماعي والتنوع الإثني والديني والقومي، ولها روحيّة مناخية وتاريخية وحضارية ومدينيّة شديدة الخصوصية والفرادة، فضلاً أنّها عاشت حقباً تاريخية مريرة لكنّ شعبها ظلّ قادراً على إظهار أبلغ المواقف في أصعب الظروف.
تتحدّر صورة القصيدة الموسومة "الموصل" للشاعر الأب يوسف سعيد من العتبة الكليّة لعنوان الديوان "الشموع ذات الاشتعال المتأخر" عن دار الشباب، بيروت، 1988، في علاقة نسيجيّة على صعيد بناء العتبة تحتاج إلى كثير من التأمّل والتدبّر والرصد والمعاينة. فعنوان الديوان "الشموع ذات الاشتعال المتأخر" هو عنوان محيطيّ شامل تنتمي إليه قصائد الديوان جميعاً، إذ هو عنوان مهيمن يطغى على عنوانات قصائد الديوان كلّها ويستوعبها، وثريّا تنشر تباشير ضوئها اللامع عليها، وهنا يبرز الذكاء العنواني في انتخاب عنونة وصفية جمليّة توجّه القراءة نحو بؤرة مركزيّة يحصل في جوهرها الحدث الشعري.
لعلّنا يمكن أن نقدّر كقراءة أولى أنّ كل قصيدة من قصائد الديوان التي تعمل تحت مظلّة ثريّا العنوان هي "شمعة" تتسّم باشتعال متأخر على هذا النحو، ومن ضمنها قصيدة "الموصل" التي هي أول قصيدة "شمعة" في ترتيب القصائد "الشموع" وتسلسلها داخل الفضاء الخطّي الورقي للديوان، ووضعها في بداية الطواف الشعري لقصائد الديوان إنّما يعني طليعيّتها وقدرتها على تنوير المساحة الشعرية الخاصة بها أولاً، والمساحة التي تحيط بها حيث تشمل بقية القصائد التي تنبع من وحيها على نحو أو آخر.
ينهض عنوان القصيدة "الموصل" على مفردة خبريّة معرّفة تستقلّ في فضاء العنونة؛ وتسيطر على مجال البياض ما قبل متن سواد الكتابة، وثمة هدف قصديّ واضح ودقيق ومحدد ينتمي إلى "الموصل/ المدينة" إذ يرتبط الشاعر معها مكانياً في أكثر من مستوى معيشي وتاريخي وحضاري، فضلاً على معنى الوصل والتواصل والربط الجسريّ الكامن أصلاً في معناها اللغوي ما قبل المديني، بما يجعل منها ذات قدرة حاوية لحُزمٍ من الدلالات والقيم والاعتبارات العائدة على التسمية والعاملة في مناخها.
عتبة العنوان بهذه الأسلوبيَّة المحدودة "الموصل" لا تعطي الكثير في نطاق البحث التأويلي للمخزون السيميائي الممكن، لذا يتوجب هنا البحث أولاً في علاقة عنوان القصيدة بعنوان الديوان "الشموع ذات الاشتعال المتأخر"، وثانياً لا بدَّ أن تتمظهر القيمة السيميائيَّة للعنوان في تشكيلات المتن الشعري للقصيدة، وهو ما يمكن أن تكتشفه القراءة عموماً داخل فضاء العتبات وخارجها حيث تكون "الموصل" بوصفه مكاناً مرجعياً واقعياً، وشعرياً تخييلياً، بؤرة شعرية مثمرة ومنتجة تتشظى رؤيات ودلالات ومعانيَ وقيماً تعبيرية وتصويرية، تشعّ من المكان، وتتشظى في محيطه، وتنتشر على مساحاته، وترتفع في فضاء التخييل عالياً، لتعود مرة أخرى إلى المكان الأصل بمنظوره الواقعي "المديني الراهن والتاريخي والحضاري"، فتمتزج الرؤية الواقعية بالرؤية التخييلية بالرؤية اللسانية؛ داخل فضاء شعري يقترب من تشكيل السبيكة الشعريّة الذهبيّة القادرة على تمثيل التجربة بإيقاعها الضارب في اللغة والصورة.
تتشكل الصورة العنوانيَّة للقصيدة "الموصل" في سياق بنية شعرية مكانية ذات طبيعة إخباريّة وإشهاريّة عالية الحضور والوضوح والتمظهر، لكنّ التوجيه الشعري الذي ستقيم على أساسه فضاءها الشعري هو ما يعطيها المعنى والدلالة والرمز والرؤية، ولا شكّ في أنّ وضع هذه العنونة وعنوانات القصائد الأخرى في الديوان تحت رعاية عنونة كلية شاملة، تفترض في مجال التأويل فكرة إيجاد علاقة بين عنوان كل قصيدة منها وعنوان الديوان، ومن هنا علينا البحث عن طبيعة العلاقة بين "الموصل" عنواناً للقصيدة، و "الشموع ذات الاشتعال المتأخر" عنواناً للديوان.
يتمثل عنوان الديوان "الشموع ذات الاشتعال المتأخر" في أنموذج التشكيل الوصفي بوصفه عنوانا خبريا أيضاً في تشكيله النحوي، لكنّه لا يكتفي بخبريته المطلقة التي ينشحن بها دال "الشموع" المفرد المعرّف، بل يعتمد على الصفة الجمليّة الفارهة "ذات الاشتعال المتأخر" بحساسيتها النعتية الموجّهة نحو طاقة تدليل معيّنة.
يقدّم العنوان الكلي على هذا النحو هويته السيميائيّة المدعمة بفكرة الانتظار والتمهّل والإرجاء، فالشموع دالّ ضوئي أبيض واقف يتنازل "عمودياً" من الأعلى إلى الأسفل عن جسده لصالح استمرارية الضوء في المكان حتى نهايته "نفاد جسده وضموره"، والصفة هنا "ذات الاشتعال المتأخر" تعني حياة أكثر قياساً بالشموع ذات الاشتعال الطبيعي زمنيّاً، لأنّه كلّما تأخر الاشتعال أكثر زاد عمر الشموع الزمني.
فهل الموصل بوصفها المديني هنا تنطلق في عتبة العنوان تاريخياً وحضارياً ومكانياً؛ كي تمثّل شكلاً من أشكال الشموع ذات الاشتعال المتأخر؟، ذلك سؤال واجب الحضور لحثّ التأويل على الالتفات نحو علاقة ممكنة بين العنوان الكلّي الذي يهيمن عليه دالّ "الشموع" من جهة، والعنوان الجزئي الذي يتربّع عليه دالّ "الموصل" من جهة أخرى. إنّه السؤال الذي ينبغي أن يبقى حاضراً حين ينوي القارئ الدخول في طبقات القصيدة؛ كي يتفحّص تجليّات الروح المدينيَّة والحضريَّة الماثلة أبداً في لغة القصيدة وصورها وإيقاعها.