الفلسفة بين المفاهيميَّة والأكاديميَّة

ثقافة 2025/03/02
...

  حازم رعد

تقع الفلسفة اليوم ضحية أنواع مختلفة من "الأسر"، إذ يحكم عليها بأن تضل أسيرة فضاءات تعسفية متعددة فتوضع الاغلال والأصفاد عليها، حتى لا تتمكن من التحرك برشاقة وتتم السيطرة على مرونتها، ولعل أولى أنواع الأسر الذي يحبس الفلسفة هو الأسر الأكاديمي. 

كثيراً ما تناولت هذا اللون من الاضطهاد "الرمزي" الذي يفرض على الفلسفة جواً من التعميمات والتعليمات التي تقيد حركتها ويفصل بينها وبين الواقع بحائط عتيد لا يمكن اختراقه من التعرض للاصطدام والكسر أحياناً والخدوش من هنا وهناك. هذا الحائط الاكاديمي شديد الصلابة يأبى على الاختراق، فهو بناء مشيد بمفاهيم معقدة ومنهج بعيد ينأى بأدواته عن الواقع وعزلة نرجسية بداعي التفوق، نابعة مما يسميه مايكل ساندل غطرسة الجدارة أو التفوق. 

والجدير بالذكر أن إشكالية الأسر الأكاديمي ليست مقصورة على الفلسفة وحدها، بل إن العلوم الإنسانيّة الأخرى هي الأخرى المرتبطة بتطوير قدرات الإنسان الذهنية والنقدية والتحليلية والمعنية بتدبير شؤون الإنسان وتنظيم أوراق الواقع على المستويات المختلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، هي كذلك تعاني من ذات المعضلة مثل علم الاجتماع والنفس والسياسة وعلمي الادارة والاقتصاد، ولكن الفلسفة أبرز تلك المجالات المعرفية كونها متعلقة بالتفكير الحر والناقد والمجرد الذي يسعى تركة الجهل عن ذهن الإنسان وتقويض موجات التطرف والعصبيات وتجفيف بؤر انبعاث النفس المتحيز، فلذلك أهميتها تبرزها وتميزها عن غيرها وإلا فإن جميع العلوم الإنسانية طالها التهميش ووقعت ضحية المنهج الاكاديمي الصارم الذي غالباً ما يقضي على أمل بالتغيير نحو الأفضل.

وليس ذلك فقط، بل إن هناك نوعاً آخر من الأسر وهو حصر الفلسفة كمجال معرفي بجماعة معينة "النخبة" مجموعة محددة من الناس ولا يسع الجميع أن يطل برأسه عليها في حين يمكن اسقاط هذا النمط من التفكير المؤطر بسهولة، إذ الفلسفة هي نتاج للعقل الذي هو بدوره أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فالفرض الأولي بما أن الفلسفة منهج تعقلي هي متاحة للجميع ان يخوضوا فيها وينتهلوا من معينها العذب فهي ليست حكراً لأحد وإن صارت كذلك، فإننا قد حكمنا عليها بالنهاية أو الموت فالأمر حينئذٍ لا تقدم نفعاً لنفسها لتطورها ولا للآخرين لتزيد في وعيهم وتفتح شهيتهم النقدية، ولكن الواقع الذي يؤسف له الفاهمة النخبوية والأكاديمية قد فهمت الفلسفة على هذه الشاكلة المنحازة، ولذا قد اعلنوا عن استقالتهم من الواقع وانعزلوا في بروجهم العاجية فحال المتفلسف في الأكاديمية، مثلاً هو ليس أكثر من موظف يتقاضى راتباً لقاء تقديم خدماته في نقل المعلومات الجاهزة إلى الطالب سواء اجتهد الأخير بعملية التحليل وطور قدراته النقدية أم لا، ذلك لا يعنيه في شيء وهو بشكل عام غير معني بالمجتمع أو اهتماماته أو بالمشكلات التي يعج بها الواقع مثل المشكلات السياسية والاقتصادية والإرهاب والمخاطر البيئية والاتجار بالبشر وقضايا الانتحار وتفشي المخدرات، فهو بصريح العبارة في نوم عميق عن الواقع والمجتمع، ويصحو مع كل موعد تقاضي الراتب أو اقتراب موعد الترفيع والعلاوة وأبرز اهتماماته هو بنظام الجودة والترقيات وإن كان ذلك الحال هو بشكل غالب لا كلي. 

وهناك الأسر المفاهيمي الذي بات يحبس الفلسفة في قوالب مفاهيمية صعبة المراس لا يتمكن معظم الناس من استيعابها وفهمها، ولذا تجدهم يزدرونها ويبتعدون عنها، ما شكل صعوبة أمام المتلقي العام للنفاذ إلى فضاء الفلسفة، بل وصعوبة للفلسفة من أن تأخذ مساحتها في الواقع الاجتماعي، وهذه المسألة كنت قد تناولتها في كتاب "في الفلسفة سلسلة مقالات للقارئ العام"، واستعرت تسمية لإطلاقها على هذا الوان من الصعوبات وأسميتها بالعائق المعرفي، فهي تعيق عرفة الإنسان العقلية وتحول من دون تمدد المعرفة الفلسفية للفاهمة الإنسانية. وهذا اللون من الأسر ليس قسماً بذاته وإنما هو رواشح عن الأسر الأكاديمي، فالأخيرة هي الفضاء المعني "لا أقل في عصرنا" بخلق المفاهيم وغالباً ما تكون معقدة عصية على التلقي. وعطفاً على ذلك أن الوان الأسر التي ذكرناها يقع على رأسها هو "الأكاديمي" فهو يشكل بالنسبة للفلسفة موضع الحبس الأهم والمقيد الأكبر, إذ يمنعها من التمدد وأخذ مكانها الطبيعي في المجتمع وبين الناس تتداولها العقول وتتسلى بها الفاهمة البشرية. المفارقة أن الأكاديمية يفترض أن تكون وسيلة التعليم الأهم للمجتمع والاقنوم الأبرز الذي من خلاله يبث الوعي الى الناس وتضطلع لنا بابتكار طرق للعيش وتدشين رؤى للعيش وتحقق لنا نظرياً السبل الكفيلة بجعلنا نعيش هذه الحياة بطرق ممكنة وتناسبنا.

لذا ننادي دائماً بأن تسحب الفلسفة خارج الأسوار الأكاديمية ليس للتخلص من الفكر والأدوات الفلسفية في الفضاء الأكاديمي، بل لتتخلص من أسرها لأن الجو الأكاديمي كما يصفه الدكتور قاسم جمعة في كتابه "خارج أسوار الأكاديمية": (لا يسعى الباحث هنا الى مغادرة أجواء المنهج الأكاديمي، بل إلى لفت النظر الى قصوره  وعقم موضوعاته فهي لا تثير أو تعير قيمة إلا ما تعيره المؤسسات التعليمية مكانة في جدول اعمالها المقنن مسبقاً) وهذا يعني أن تكون الفلسفة غير ذات جدوى للمجتمع الذي يقف خارج الأفق الأكاديمي، ولا تكن له أي اهتمام لا على المستوى الأشكالي ولا السياسي أو الاجتماعي، لأن المنهج الأكاديمي بالأساس يحصر اهتمامات الباحث والمتفلسف فيما تفرضه سلطة المؤسسة التعليمية والتي تريد "وهذا بشكل اجمالي لا تفصيلي" تحديد وتخدير الجمهور والناس بمهدئات فكرية معينة معمولة مسبقاً تتناسب مع ايديولوجيا تلك المؤسسة، وهذا ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو "العنف الرمزي" الناشئ من طريقة تربية وتعليم مفروضة قسرياً على الناس، وإهمال شؤون الناس وعدم مراعاتها والعمل على تدبيرها أو لفت انتباههم إلى ما يحرك مدثورات العقول ويلفت الانتباه ويحقق فعل الدهشة التي هي أولى محطات التفلسف الإنساني، ومن ثم تمر على الإنسان عشرات بل مئات الأحداث والأشياء وهو لا يفهمها ولا يعيرها آذانًا صاغية. 

إنَّ بقاء الفلسفة أسيرة تلك الاقانيم يعني عدم جدواها، بل وإعلان موتها، لأنّه ما لم تفد فهي بمنزلة الميت الذي لا حياة فيه، والواجب أن ترجع الفلسفة إلى حيث كانت في مرحلة "البدء" حينما كانت تنتمي إلى الشارع والواقع، تسير وتتحرك مع الناس في الطرقات والأسواق والساحات العامة، وتتداول في المقاهي والصالونات وفي اروقة السلطة، حتى تتمكن من انتاج المعرفة اللازمة للإنسانية وابتكار المفاهيم التي تؤطر الواقع وعبرها يتم التداول والتذاوت والتواصل.