محمد شريف أبو ميسم
في العام 1964 اعتلى منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة وقال خطابا مزلزلا بكلمتين فقط “الوطن أو الموت” ثم ترجل تاركا التاريخ يسجل موقف اليسار العالمي من قضية الأوطان التي يراد لها أن تتحول إلى فنادق في نظر الرأسمالية العالمية، اذ استطاعت أن تسوّق هذه الفكرة وهي تحيل حياة الشعوب إلى تفاهات ومجاعات ومجازر متى ما شاءت.
أعدم آرنستو تشي جيفارا، دون محاكمة في 8 تشرين الثاني 1967 في بوليفيا، بعد أن ألقي القبض عليه في إحدى الغابات مع مجموعة من رفاقه، على اثر مغادرته كوبا طوعا للقتال في الكونغو ثم بوليفيا دعما للمدافعين عن أوطانهم ضد مشاريع الهيمنة والاستعمار. ولكنه ترك أثرا بقي حد اعتلاء صورته على ألبسة الشباب في عموم العالم بوصفه ثائرا يساريا ضد الهيمنة الاستعمارية والرأسمالية.
وفي وقت تهيمن فيه أدوات العولمة الثقافية على الخطاب الاعلامي، فتصنع ما تشاء في الرأي العام، يحاول البعض الاختباء في معطف جيفارا، وتقديم نفسه بوصفه صديقا للمنهج النضالي الذي يتبناه اليسار، غسلا للماضي الملطخ بالولاء لسلطة الاستبداد، وخلطا لأوراق العقل النقدي بعد ازاحة المثقف العضوي من الصدارة. فتجد هذا البعض معترضا على نهج المقاومة ضد الكيان الصهيوني في سياق تسويق مقيت يحاول أن يبرر انهزاميته، ويستهدف المقاومة بوصفها تشكيلات لحركات اسلامية تحاول أن تعيد شعوب المنطقة إلى القرن الأول الهجري بما لا ينسجم مع طبيعة التحول والتجدد في منهج الحياة الحديثة. فيضع نفسه هنا والمتلقي بين السردية الماسونية التي يتبناها المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، والتي تقدم لنا المقاومة بوصفها حركات متخلفة تريد أن تعيد بالحياة إلى الوراء في حال انتصارها، وبين متبنيات حركات المقاومة بوصفها نهجا جالبا للخراب والدمار، ليكون التطبيع مع دولة الاحتلال خيارا أخيرا ووحيدا، وبأسلوب يقدم المستعمر بوصفه أكثر صدقا من المقاومة، اعتمادا على السردية الماسونية، التي استطاعت أن تقدم المقاومة والداعمين لها بوصفهم محور للشر وسبب في حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وأن التطبيع مع دولة الاحتلال مدخل للاستقرار والازدهار.
وهنا يظلم جيفارا مرتين، مرة لأنه بقي محاصرا مع رفاقه في غابات بوليفيا دون نصير وهو يحاول استعادة الوطن للفقراء والمعدمين، حتى تمكن منه التعب والجوع والمرض، اذ كان يعاني من نوبات الربو الحادة، ومرة لأن الطارئين على اليسار، أو الذين يدعون صداقتهم لليسار، يرتدون معطفه بوصفه رمزا لوهم النضال الذي مات من أجله، في سوق برغماتي يبرر الخنوع والاستسلام بدعوى المتغيرات والعالم الجديد وظروف المرحلة الراهنة، ليعلنوا صراحة عن براءتهم من رجع صوت جيفارا في غابات الكونغو أو بوليفيا، والاكتفاء ببقاء صورته على ملابس الصبايا والغلمان، بعد أن حلت مفاهيم القوة محل قيم الكرامة والحرية، فلا وسع للانهزاميين على حمل السلاح، وعلى الشعوب أن لا تضحي من أجل أوطانها بعد أن تعالت قيم الاستهلاك وحلت الأنانية والوصولية محل النخوة والعزة، وبعد أن هيمنت عوالم التفاهة التي تغذيها ماكينة الاعلام الماسوني يوميا بوجوه جديدة من المتخلفين والتافهين.
ومن هذا المنطلق، ما على اليسار الذي دعم وتحالف مع كل حركات التحرر في العالم وتخرج من مدرسته العقل النقدي والمثقف العضوي، الا أن يعلن براءته من الطارئين الذين يحاولون الاختباء وراء مسمياته النضالية، وهو مطالب اليوم أكثر من أي يوم آخر، دفاعا عن تاريخه النضالي المشرف، أن يعلن موقفه الصريح من تضحيات الشعوب التي تعرضت لأبشع جرائم الإبادة والتجويع والتنكيل وبقيت متمسكة بأوطانها، وهي تتصدى للمشروع الماسوني على القائم على شعار “من الماء إلى الماء تترامى أطراف دولة الصهيونية الكبرى”.