غنوة فضة
تحملُ روايةُ "الحب عربةٌ مهترئةٌ" للكاتب الجزائري أحمد طيباوي ملامحَ الكتابة التي تنطوي على المكاشفة الذاتية، والسردَ الذي يتكئُ على اللعب مع الاحتمالات والممكنات. ليبدو الحدثُ طرفاً في لعبة عنوانها الوقتُ، وصلبها الندمُ. إذ يضعنا الكاتبُ أمام حالة احتضار بطلهِ، ومكاشفتهِ الأحوالَ التي سارت عليها حياته. هكذا على سرير الموت، لا يوفر البطلُ الوقتَ، بل يدفعهُ المرض الذي يقسر النفس على قول الحقيقة. وهو في الوقت ذاتهِ يضعنا أمام اللعبة التي تحكمت بتفاصيل حياته، وأمام الزمن أيضاً؛ إذ يبدو الزمن الحبلَ الذي يتراقص على أنغامه السردُ لمزيد من المكاشفة.
نحن إذاً أمام أربعٍ وعشرين ساعة لبطلٍ يحتضر، ووحيدٍ ومنعزل، وغير راضٍ عن حياته. ويريد أن يحكي قصته؛ ربما حزناً على حياةٍ لم تكن له، ولعلهُ الندمُ على أشياءٍ أراد فعلها ولم تسمح له الحياة بذلك. بدءاً من الحب، ووصولاً لعلاقة الأبوة والبنوة لرجلٍ في حالة احتضار ويتهيأ لدخول غرفة العلميات. وكأنّ الكاتب باختياره لذلك المشهد بداية لروايته، أراد لنا أن نعرف أن حكايته تحمل من الصدقية ما يحملهُ منها الموتُ نفسه. إذ لا يمكن أن يمر على المرء لحظات أكثر حقيقة منها، ولا يمكن لأحدٍ أن يكذب في لحظة الاحتضار حتى أمام نفسه. لذا فإن الفنية العالية التي اختارها الكاتب تتركز في فكرة الموت، ومدى تأثيرها على عوالم الرواية. وليس الموت وحده، بل الحب أيضاً. والذي يبدو المعضلة الوحيدة التي تحول بين البطل وقصته. وتجعله يبدو أمامنا أكثر ليونة، وأكثر مراساً مع عالمه. ولعل حبه القديم لفتاةٍ أرادها وخذلها مرآةٌ للندم على الحياة، وقبوله الاستمرار في العيش من غيرها.
كل تلك التحديات النفسية والاجتماعية التي تواجه البطل، تضعنا أمام واقع اجتماعي مضطرب. وتنقل تفاصيل حياة يومية وعلاقات يسمها الزمن بالصرامة. بينما عاشها بطلنا بدرجة عالية من الهشاشة المؤذية. فعلاقته الصارمة بأبيه، وخسارته لأمه، دفعاه ليغوص في نوعية تلك العلاقة الأبوية وتفتيتِ الظروفِ التي أحالتها إلى علاقةٍ باردةٍ من غير مشاعر. تكاد تشبه علاقة النفس التي تفضل نفسها على الآخرين. هي نوعٌ من قصص أولئك الآباء الذين يفضلون أنفسهم على أبنائهم. لقاء إقصاء أحلام الأبناء، وغض البصر عن أحلامهم، ورغباتهم، وحتى عن وجودهم.
معاناةُ البطل، والجراح التي حملها معه أينما ذهب. والآلام التي ترافقه حتى سرير غرفة العمليات لم تكن فقط بسبب علاقته المؤذية بأبيه، ولا بزوجته التي حاولت خلق نوع من التوازن في حياة الأسرة الجافة. بل نجد أن الحب هو العائق الأكبر بين البطل وبين رغبته في العودة إلى الحياة. ذلك الحب لفتاة أحلامه، والذي لم يمنعه زواجه التقليدي من امرأة لم تستطع النفاذ إلى قلبه، هو ذاته الحب الذي يكسره عندما يتطلع إلى قدر ابنتهِ، وهو يدرك أنها ستعيش طفلة من غير أب، ولربما تنساه بعد رحيله وزواج أمها. وكأن الكاتب أراد أن يضعنا جميعاً أمام أنفسنا مجردين سوى من الحقيقة؛ وهي حقيقة أننا مخلوقات تخاتل الواقع، ولا تسمي الأشياء بمسمياتها. هي نظرة فلسفية وجودية يطلقها الكاتب، من غير أن يخفي قدرة الواقع على ممارسة تلك القسوة على البشر، وصرامة المجتمعات في تسخير العلائق بين البشر لصالح خط بعيد كل البعد عن الحرية. وبصورة تمحي وجودهم، وتتعامى عن أحلامهم. فالحب الذي يتلون تبعاً للمصالح، والتبريرات التي يضعها الآخرون أمام نكرانه، تفضي بأكملها إلى حالة من التهميش، وتدفع المرء ليتصارع مع عالمه. كل تلك الأفكار يسردها أحمد طيباوي بتأمل عميق وتوصيف اجتماعي ونفسي. وبلغته السلسة، وكتابته المملوءة بالنقد، والمكاشفة غير الراضية عن ما يحدث تشكل جوهر الكتابة. ولعل تلك النظرة النقدية أو الساخطة على العالم تجسد قيمة الفن في مواجهة الحياة، والتي لا بد لها من النفاذ إلى الواقع، ونقده، وإنكاره حين يقف في مواجهةٍ مع الإنسان، وأيضاً حين يحاول الآخرون سلبهُ إنسانيته. "لدى عمار ما يكفي من الذكاء لكيلا يبدأ الرواية بمشهد الموت، تلك طريقة مبتذلة في ابتزاز اهتمام القارئ، كما أنه من السخيف أن يزيد أحزان العالم. أريدها فقط أن تكون مرثية هادئة لرجلٍ كان سلاحهُ الحب، فارتدَّ عليه وقتلهُ. لقد خسرتُ النهايات، أما العزاء فتأخر، ولا أريدُ الآن من الحب سوى الطريق..".