نجاح الجبيلي
طرح المفكر الفرنسي فرانسوا ليوتار، مفهوم "اللاسينما" (Acinema) في مقاله الشهير الذي يحمل الاسم نفسه. يعبر هذا المفهوم عن تيار سينمائي لا يخضع لقواعد السينما التقليدية، بل يتحدى مبادئها الأساسية مثل السرد الخطي، والإيقاع المتوازن، والأداء الحركي داخل الفيلم.ويرى ليوتار أن السينما التقليدية تخضع لمنطق الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد على التبادل والقواعد المعيارية للسرد والتمثيل والحركة.
بينما "اللاسينما" يمثل رفضاً لهذه المعايير عبر كسر القواعد السردية والمرئية المعتادة، ما يؤدي إلى سينما غير تجارية، غير خطية، وتتمرد على المفاهيم السائدة للجمال السينمائي.
حدد ليوتار نمطين أساسيين يميزان اللاسينما:
الحركة المفرطة (Excessive Movement): حيث يتم تكثيف الحركة داخل الفيلم بطريقة غير متوقعة، مثل تسارع الإيقاع بطريقة غير متناسبة مع السرد، ما يخلق إحساسًا بالاضطراب والفوضى.
السكون المفرط (Extreme Stagnation): يتميز بلقطات طويلة دون حركة، ما يؤدي إلى خلق نوع من التوتر أو الشعور بالفراغ داخل الفيلم.
يرتبط مفهوم اللاسينما بفكرة "الاقتصاد الليبيدي" (Libidinal Economy)، حيث يرى ليوتار أن السينما التقليدية تلتزم بـ "اقتصاد تعويضي"، أي إنها تخلق حركة متوازنة بهدف تقديم المتعة المتوقعة للجمهور. بينما اللاسينما لا تعوض شيئاً، بل تكسر هذا التوازن وتخلق توتراً غير مريح، ما يجعلها أقرب إلى التعبير الشبقي الحر غير الخاضع للرقابة أو التنظيم.
يعدُّ ليوتار اللاسينما بمثابة موقف سياسي وجمالي ضد الأنظمة السائدة في صناعة السينما، حيث يرفض نموذج هوليوود التقليدي الذي يعتمد على قصص متماسكة وسهلة الفهم. بدلاً من ذلك، تتجه اللاسينما نحو التجريب والتشتيت والتأمل الفلسفي.
اللاسينما عند ليوتار ليست مجرد تيار سينمائي، بل هي رفض جذري للأنماط السائدة في صناعة الأفلام، حيث تسعى إلى تفكيك قواعد المشهد السينمائي التقليدي واستبداله بتجربة حسية وفكرية غير متوقعة. يمكن اعتبارها جزءاً من تيار أوسع في ما بعد الحداثة يسعى إلى تحرير الفن من القيود السردية والتجارية، وجعله أكثر انفتاحاً على التعددية والتجريب.
سهراب شهيد ثالث هو أحد أهم مخرجي السينما الإيرانية في عصر ما قبل الثورة الإيرانية. واستطاع أن يؤسس تياراً جديداً للسينما الإيرانية من خلال أفلامه، ومن بينها فليما "حدث بسيط" و "حياة ساكنة"، تتبنى أفلام شهيد ثالث سينما غير عادية يمكن اعتبارها قريبة من مفهوم "اللاسينما" الذي صاغه ليوتار الذي يرى أننا إذا فسرنا السينما على أنها كتابة بالحركة، فإن فئتين من الحركات (الحركة المفرطة) و(السكون المفرط) تعدان أمرين غير مألوفين، لأن ذلك في الحقيقة رفض للقواعد التعاقدية للفيلم، كما نعرفها في السينما. ويمكن التعرف على هذين النوعين من الحركات والتأكيد عليهما في مشاهد معينة من الأفلام. سينما سهراب شهيد ثالث هي سينما لها مسار مختلف، وفقاً للأسس التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في إيران، بالمقارنة مع سينما الجسد أو السينما السائدة في إيران، وقد نجحت في اتباع مبادئ ليوتار وقاعدة (السكون المفرط) و(الاقتصاد الليبيدي) في تصميم عناصر السرد.
يعد فيلما (حدث بسيط) و(حياة ساكنة)، اللذان تم إنتاجهما في عامي 1974 و1976 من قبل سهراب شهيد ثالث، أمثلة ناجحة على أفلام اللاسينما (Acinema) الحالية في ايران، إذ أعاد شهيد ثالث عناصر السرد والأسلوب على أساس الثقافة الإيرانية والمجتمع والاقتصاد والتصوف، وفي تفاعل واسع النطاق مع الثقافة العالمية بأكملها. وقد ساعد تطور التعبير السينمائي في إيران على خلق نغمة خاصة لها. من خلال التركيز على الثيمات الوجودية القائمة على العلاقات الإنسانية، أعطت سينما شهيد ثالث العالمية فرصة للعثور على جمهوره في أي مكان في العالم. على النقيض من اقتصاد القيمة أو اقتصاد التيار السائد الذي يسعى إلى إعادة رأس المال والاستفادة من المبيعات بأي ثمن، فإن اقتصاد سينما شهيد ثالث هو اقتصاد ليبيدي [نسبة إلى الليبيدوم] يقوم على مبدأ المتعة، وله قيمة روحية وغير مادية، ويعتمد بصورة أكبر على عرض أفكار المبدع اللاواعية بدلاً من العقود المحددة مسبقاً للسينما السائدة. يمكن القول بأن سهراب شهيد ثالث يُجسد مفهوم اللاسينما كما طرحه ليوتار، حيث تتسم أفلامه باللقطات الثابتة الطويلة والجمود المفرط، وغياب الحبكة السردية التقليدية، ورفض المتعة السينمائية التجارية، والتعامل مع الزمن كعنصر وجودي وليس سردياً، وتقديم نقد اجتماعي وسياسي مبطن عبر الصمت
والتكرار.
المصدر: ليوتار: في معنى ما بعد الحداثة: نصوص في الفلسفة والفن ترجمة: السعيد لبيب، المركز الثقافي العربي