علي حمود الحسن
استمتعت بمشاهدة الفيلم الوثائقي 'دابادا' للمخرج المغترب علي ريسان، الذي أرسله لي مشكورًا قبل أيام. لكن هذه المتعة لم تكن كاملة، إذ امتزجت بشعور من الأسى والحسرة، الفيلم الذي ينتمي إلى أسلوب الديكودراما، يتناول السيرة الحزينة للروائي والرسام العراقي حسن مطلك، الذي أُعدم شنقًا عام 1990 عن عمر ناهز الـ 29 عامًا، بعد حياة حافلة بالإبداع والتمرد، ليس فقط على واقعه الضيق بأحلامه، بل على نظام شمولي صادر حياة شعب بأكمله. وكان ريسان موفقاً باختيار عنوان رواية حسن مطلك الفريدة وغير المتوقعة "دابادا"، اسماً لفيلمه الذي اقتفى به طفولة صديقه ثقفي المزاج وحتى نهايته التراجيدية، من خلال راوٍ منحاز ومجموعة منتخبة من أسرة مطلك وأصدقائه، فكانت سيرة بصرية ضاجة بالحنين.. كتب السيناريو للفيلم ريسان نفسه، ومثل طفولة حسن الفتى سامح ثروت، وصوره احمد الهلالي، ومنتجه صافي الداودي، ووضع موسيقاه التصويرية خالد كاكي، وترجمه علي سالم، وهيأ المادة الأرشيفية وتابعها الكاتب محسن الرملي. اعتمد المخرج أسلوب الديكودراما من خلال تجسيد الفتى سامح ثروت لطفولة حسن مطلك وسط قرية "إسديرة" في الشرقاط، فمن خلال مشاهد افتتاحية نقتفي أثر حسن الفتى المغترب، متأبطاً كتابه متلمساً بيوتاتها الطينية، ومتجولاً في أروقة ودهاليز قلعتها الآشورية، لينتهي به المطاف متأملاً نهر دجلة، هذا المدخل البصري المنفذ بجمال وانسيابية، هو العتبة الأولى التي ستأخذنا إلى عوالم هذا الكائن العراقي الجميل، من خلال تعاقب شهادات مجايليه من أسرته وأصدقائه، الذين تحدثوا بعاطفة عن حسن؛ الرسام، والشاعر، والروائي المتمرد على رتابة قريته ومحدودية أفقها. بأسلوب سلس وإيقاع متزن، أدار ريسان شهادات خمس شخصيات فصيحة ومتحمسة لحياة حسن مطلك، بكل إشكالياتها وتمردها، فقد عاشوا معه وتفاعلوا مع أفكاره، فتى يقرأ بنهم ويشخبط على الورق والحيطان، وشاباً مثقفاً يكتب ويرسم ويمثل. يؤكد أخوه الكاتب محسن الرملي : "أن حسن هو أول من رسم في "إسديرة"، وقد تحمل الكثير جراء ذلك"، وأدلى المعلم التربوي إبراهيم احمد خلف بشهادته عن أيام التلمذة برفقة الشهيد، إذ زامله في المدرسة الطينية الوحيدة في المنطقة، يومئذ كانوا فقراء لا يملكون قمصاناً، "فقط بنطال نحشر فيه الدشاديش.. وكان حسن الأذكى والأشطر"، بينما تحدث صديقه الكاتب حسين العنكود عن تأثره بمعلميه المتنورين، فضلاً عن وجود القلعة الآشورية التي جلبت علماء الآثار، ما أضفى على "اسديرة" اختلافاً ومدنية، ويستذكر قريبه د. ياسين الذي يصغره بالعمر مكتبته الطينية التي وصفها بـ "الضخمة" رغم صغر سنه، وقال ابن أخيه خليل الرملي :"عُيّن حسن أستاذاً في معهد المعلمين بكركوك، حيث تفجرت مواهبه وتعمقت صداقاته مع مثقفين وأدباء وفنانين، ويسترجع المخرج المسرحي عبد الرزاق محمد ذكرى لقائه بحسن الروضان عام 1979، وكيف انبهر بنصه "دابادا"، وقال الرملي: إن الذي فجر موهبة الكتابة عند حسن، "هو فضوله لدراسة الرسم"، بعدها يأتي صوت الشهيد واثقاً وهو يتحدث عن روايته وكيف "محا من ذهنه كل ما عرفه عن كتابة الرواية، وتجاوز كل أنواع الرقابة في داخله"، وكانت شهادة اخته كاظمية من أجمل الشهادات وأكثرها صدقاً وبراءة، لا سيما حديثها عن ولعها بكتبه وتأثرها به، وسعادتها، لأنها كانت كاتمة أسراره.
سبك ريسان هذه الشهادات العذبة بإيقاع محبوك يمنع الشعور بالملل، مع تنقلات بين المتحدثين، كانت في معظمها سلسة ومبررة وأعطى تجسيد شخصية البطل التي أداها الفتى سامح ثروت زخماً درامياً للأحداث.
آزرت الموسيقى الأحداث وعمقتها، وإن كان الصوت المصاحب مستهلكاً، لفرط توظيفه في الأفلام المحلية، كنت أتمنى الاكتفاء بصوت العود الذي كان مناسباً وداعماً لإيقاع الفيلم.