الصندوق السيادي.. النرويج أُنموذجا

اقتصادية 2025/03/03
...

 فارس آل سلمان


يعدُّ الصندوق السيادي في أي دولة مصدّاً رئيسياً لمواجهة رياح الأزمات الاقتصادية وتقلُّبات السوق. وقد سعت الدول المنتجة للنفط لتحصين اقتصادتها ومواجهة انخفاض وتذبذب أسعار النفط من خلال تأسيس صناديق سيادية ومحافظ استثمارية، وخير مثال ناجح على ذلك هو صندوق الاستثمار النرويجي، حيث أسست الدولة صندوقاً سيادياً أصبح اليوم من الصناديق الكبرى في العالم.

وكانت الحكومة النرويجية قد أعلنت سيادتها على الجرف القاري حول بحر الشمال، ومنحت التراخيص لشركات عالمية لبدء الحفر بحثاً عن النفط في عام 1966 تحت إشراف الحكومة النرويجية. في أواخر كانون1/ديسمبر عام 1969 ومع بدء التحوّل الاقتصادي في النرويج، من دولة تعتمد على الزراعة وصيد الأسماك، لتصبح الدولة الرائدة عالمياً في مجال التنقيب عن النفط والغاز.

وبعد الطفرة التي عاشتها البلاد، بات الهدف هو المحافظة على مستويات النموّ وتحصين الاقتصاد في المستقبل، لذا ارتأت الحكومة النرويجية ضرورة إدارة العائدات النفطية بكفاءة وحكمة، فكان تأسيس صندوق النفط عام 1990 لدعم الاقتصاد على المدى الطويل، عندما تشحُّ الإيرادات النفطية، فضلاً عن كونه وعاءً ادخارياً لأوقات الأزمات.

وفي عام 1996، جرى أوّل تحويل مالي إلى الصندوق، ثمّ في عام 2006 تمّ تغيير إسمه ليصبح صندوق التقاعد الحكومي النرويجي، وتقوم وحدة الاستثمار في المركزي النرويجي NORGES BANK ، بإدارة الصندوق نيابة عن وزارة المالية، التي تمتلكه باسم الشعب.

يركز الصندوق استثماراته في الخارج، في نحو تسعة آلاف شركة تعمل في قطاعات مختلفة، في 75 دولة، حيث ترتكز 40 بالمئة من استثماراته في أميركا الشمالية، و38 بالمئة في أوروبا، و18بالمئة في آسيا وأوقيانيا، و4 بالمئة في باقي دول العالم. وتشكّل 1.3 بالمئة من الشركات المدرجة عالمياً، و2.4 بالمئة من الشركات المدرجة في أوروبا.

ينوّع البنك باقته الاستثمارية، فيستثمر في ثلاث فئات من الأصول: 60 بالمئة في الأسهم و35 بالمئة في السندات و5 بالمئة في العقارات، وذلك لتحصيل أعلى عائد ممكن، ضمن الأطر المحددة من وزارة المالية، ويتملك نحو 1.5 بالمئة من جميع الأسهم المدرجة على مستوى العالم، وقد نما حجمه ليقارب 4 أمثال الناتج المحلي الإجمالي السنوي للنرويج، وهو ما يتجاوز بكثير التوقعات الأصلية.

يذكر ان أحد المبادئ الأساسية للسياسة المالية النرويجية، هي ما تسمى بقاعدة الميزانية، حيث لا يسمح للإنفاق الحكومي بتخطي سقف العائدات الحقيقية المتوقعة للصندوق، والتي تقدّر عادة بنحو 4 بالمئة. وسجّل الصندوق عائدات سنوية بين عامي 1998 و2015، بنحو 5.8 بالمئة قبل احتساب التضخم و تكاليف إدارته.

وقد تصدّر الصندوق السيادي النرويجي مؤشر لينابورج مادويل للشفافية، الذي يقيس شفافية الصناديق السيادية العالمية، حيث حصل على كامل النقاط العشر على سلم المؤشر.

في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وصل حجم الصندوق إلى 900 مليار دولار، وتلقى مزيداً من الدعم في السنوات التالية من خلال التحفيز الاقتصادي العالمي في أثناء جائحة كورونا وارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بعد حرب روسيا على أوكرانيا. وأسهمت قوة الدولار واليورو أيضاً في تعزيز قيمة الصندوق المقاسة بالكرونة النرويجية، وفي 2019 قامت "نورجيس بنك إنفستمنت مانجمنت" التي تدير الصندوق باستثمار نحو 70 بالمئة من أصوله في الأسهم العالمية، ونحو 25 بالمئة في السندات والباقي في العقارات ومحطات الطاقة المتجددة، مع تتبع معظم محفظتها مؤشرات الأسواق العالمية.

و في مطلع كانون الاول/ديسمبر 2024 قفزت قيمة صندوق الثروة النرويجي، أكبر الصناديق السيادية في العالم، إلى مستوى قياسي بلغ 20 تريليون كرونة (1.8 تريليون دولار) لتزيد إلى المثلين في 5 سنوات فقط بفضل إيرادات النفط والغاز وارتفاع أسواق الأسهم، وقيمة الصندوق مماثلة في الحجم للناتج المحلي الإجمالي السنوي لأستراليا، وهي دولة يبلغ عدد سكانها 5 أضعاف عدد سكان النرويج، واستناداً إلى قيمة الصندوق الحالية، يبلغ نصيب المواطن في النرويج، البالغ عدد سكانها 5.6 ملايين نسمة، نحو 321 ألف دولار.

ويتميز الصندوق النرويجي بما يأتي:

حيازة أكبر حصة منفردة للصندوق في سندات الحكومة الأميركية، التي بلغت 136 مليار دولار أو 7.5 بالمئة من حجمه في 30 يونيو/حزيران2024.

وبحلول نهاية عام 2024، كانت تسعة من بين أكبر عشرة استثمارات في الأسهم داخل الصندوق تتركز في شركات التكنولوجيا، حيث جاءت آبل ومايكروسوفت وإنفيديا في الصدارة.

كانت أكبر الحيازات المؤسسية للصندوق في شركة مايكروسوفت بقيمة 41 مليار دولار. وفي شركة آبل بواقع 35 ملياراً.

وفي شركة إنفيديا بما يوازي 34 ملياراً، يمتلك الصندوق حصصاً في حوالي 8800 شركة في 71 دولة، وهو ما يمثل 1.5 بالمئة من إجمالي القيمة السوقية العالمية، للصندوق النرويجي محفظة سندات كبيرة تمثل ما يقرب من 27 بالمئة من أصولها.

وسجل صندوق الثروة السيادية النرويجي أرباحاً في عام 2024 بلغت 222 مليار دولار.

و في ظل النجاحات التي حققتها الصناديق السيادية نرى أنه أصبح من الواجب إعادة بناء الاقتصاد العراقي وفق أسس تنموية صحيحة تحقق العدالة الاجتماعية، وتخلق فرص عمل تستوعب الطاقات الشابة في المجتمع فضلاً عن تنشيط الصناعة الوطنية و المحافظة على استقرار الأسواق .

وقد لوحظ وجود توجه دولي للصناديق السيادية الفاعلة والكبيرة بهدف ضخِّ استثمارات استراتيجية مباشرة في أسهم الشركات والسندات والعقارات، حيث أنشأت دول الخليج النفطية العديد من الصناديق السيادية مثل جهاز أبوظبي للاستثمار، صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الهيئة العامة للاستثمار الكويتية و جهاز قطر للاستثمار، وقبل أيام وقع الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً لإنشاء صندوق سيادي أميركي.

لذا بات من الضروري تأسيس صناديق سيادية تهدف إلى تنظيم الاقتصاد العراقي مثل صندوق المستقبل السيادي (أو ما يسمى صندوق الفوائض)، و صندوق الاستقرار الاقتصادي.

  ونأمل أن يكون للعراق صندوقه السيادي الذي يُدار بكفاءة و علمية ليصبح من الصناديق الكبيرة المنافسة على مستوى العالم.

* رئيس الهيئة الإدارية لمنتدى بغداد الاقتصادي