جبّار وناس
شيء مفرحٌ أن نسمع ونرى على أرضِ الواقع أن ثمة نيّاتٍ طيبة تهدف إلى تشكيل فرقةٍ مسرحية هدفها الأول التعريف بفعلِ المسرح بين أوساط حياتِنا والقيامُ بتقديمِ أعمالٍ ومن على خشبته تكون في تواصلٍ ومناقشة وكشف مع العديد من موضوعات باتت فاعلة وضاغطة، بل مؤثرة ـ في فعلِها على قيمِ وسلوكياتِ الناسِ في المجتمع.
وهذا المسعى من قبل من يريدون التشكيل المسرحيّ عبر فرقة مسرحية لا يتوقفُ على ولوج النيّات الطيبة عند الشروع والمباشرةِ في تقديمِ عمل مسرحيّ ما فقط بل إنَّ هذه النيّات غير كافية رغم علو مرادها النبيل ما لم يتم التحضير والإعداد السليم لأيِّ مشروع مسرحيٍّ يراد له أنْ يكونَ حاضراً في ذاكرة الواقع المسرحيّ وأنْ يُشَكِّل مساحة بين تجارب ومشاريع مسرحيةٍ كانت قد شكلتْ لها تواجداً بفعلِ ما قدمته ومقدار ما تفاعلتْ معه ذاكرة العطاء المسرحيِّ يتمثل بالجمهور العام والجمهور الخاصِ المتخصص بفن المسرح تخصصاً وخبرةً ودراية ونقداً.
وقد يصلح هذا التمهيد ليكونَ مدخلاً لما أقدمتْ عليه فرقةُ "أبو العلاء المعري المسرحية" التابعةُ لفريق شولكي التطوعي التي تم تأسيسُها في هذا العام 2025 في مدينة الناصرية لتشكلَ رصيداً مضافاً لمجموعِ الفرقِ المسرحيةِ التي أُسْسِّتْ في محافظة ذي قار ومنذ بدايةِ الحركةِ المسرحيةِ فيها، وهي تقدم عرضَها الأولَ تحت عنوان "الظلام يتكلم" بالتعاون مع منتدى الثقافة والفنون في محافظة ذي قار/ جنوب العراق، وعلى مسرح منتدى الشباب في مدينة الناصرية، والعرض من تأليف علاء حسين عجيمي، وإخراج إبراهيم سامي حسن وقدم هذا العرض برعاية مباشرة من قبل الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا في محافظة ذي قار.
وبالطبع نكون مع حصيلةٍ طيبة من الجهود والآمال التي تعتلي في قلوبِ ودواخل العاملين على تقديمِ هذا العرضِ وهم يسهمون في إشاعة ورفع الصوت عالياً من أجل تسليط الضوء على شريحة المكفوفين وفاقدي البصر والتعريف بما يريدون قوله وسط حياةٍ وفي مجتمع صار يُغالي كثيراً بالابتعاد عن عنوان الإنسان كحاضرٍ آدمي له أنْ يكون في صدارةِ الذاكرة واقعاً وفعلاً وأثراً يسهم في أخذ حصته الحقيقية بين أبناء هذا المجتمع بعيداً عن العزل والتهميش وعدم النظر إلى هذه الشريحة بعين الود والاحتضان الإنساني اللائق.
وهذا كلُّه قد سمعناه من خلال ما سردته علينا أفواه المؤدين الذين كلفوا بإلقاء كل واحد منهم بعضا من همومهم في عرض لم يكن مكتملاً بما يتطلبه العمل المسرحي الذي نريده بل هو مشروع عرض مسرحي حفل بالنيّات التي يكللها حب العمل على خشبة المسرح ومن دون أنْ نلمس ذلك الترابط الذي يحقق لنا من سمات البناء الفني في كتابة هذا النص "الظلام يتكلم" مسرحياً فما قدم هو عبارة عن حوارات تقترب من المنلوجات لم يحتوها متن حكائي تتسلل من خلاله قصة يمكن الإمساك بها، وقد خلت من مصاحبة أيِّ مؤثر مثل الموسيقى أو الإضاءة التي نُفذتْ بحالات من الإظلام المتقطع أو حتى في لمساتّ من حضور الدور الفاعل لوجود الديكور المؤثر في حين أنَّ عرضاً كهذا يعتمد بالأساس على فاعلية الدواخل وإظهار المشاعر الإنسانية المكتومة بين صدور هؤلاء المكفوفين هو أحوج لتلك المكملات والتي نظنها هي الأساس في إبراز عرض يتجه ويطمح إلى أنْ يحوز على مقبولية أكبر وأوسع لدى الجمهور بناءً على ما أراد طرحه من أفكار وهموم إنسانية كبيرة.
وإذا ما أخذنا الجوانب المهمة التي حفل بها هذا العرض فيبدو الجانب الإنساني كبيرا وواسعا حضوراً وتفاعلاً وقبولاً من قبل الجمهور الذي حضر، وأيضا في عملية الانسجام الصحيح في التقديم تحت مسمّى "أبو العلاء المعري" فهذا الشاعر والمفكر الذى كان ينظر ويتبصّر بالأشياء التي تحيط به وبواقع عصره وفق قابلية الإبصار العظيم على الرغم من عدم تمتعه بقدرة المبصرين الذين ينظرون إلى أشيائها بعيون مفتوحة ولكنه كان يرى الأشياء لا كما يراها الآخرون.
وإذا ما أردنا أيضا أن نذهب في تقويمنا لعمل هذه الفرقة من خلال هذا العرض وما يتبعه من عروض مقبلة فلا بدَّ من النظر إلى الآتي:
- عند توفر النيّات الطيبة للعمل والمشاركة في التقديم على خشبة المسرح فيجدر أنْ تراعى المواهب والقابليات الجديدة وذلك عبر التوجيه وحسن الإدارة في إعطائها من الخبرات والدربة من قبل من يمتلكون الحرفة والدراسة ولا ضيرَ في الاستعانة بخبرات الاختصاص والكفاءات التي احترفت الفن المسرحي درساً وتخصصا وموهبةً.
- ويجدر أيضاً الاستعانة بالخبير الفني "الدراماتورج" فليس صحيحا أنْ يتحمّل مخرجُ العملِ كلَّ أعباء العرضِ المسرحي بمفرده، فالعرض المسرحي الحديث نراه يُشَيَّدُ بجهود متعددة للموسيقى مصممها للإضاءة والديكور وفاعل السينوغرافيا وكلُّ هذا يتم تحت إرادة وعين وتبصرات المخرج، وأيضا لا بدّ من توفر وحضور الرقيب اللغوي فما سمعناه من حوارات كان يلفظها المؤدون لهذا العرض وقد أغرقت بأخطاء نحويَّة ثقيلة وموحشة على الأسماع.
- وتبدو الإشارة واجبة في التنويه والإشادة بجهود مَنْ أسهم في تقديم "الظلام يتكلم" بدءاً من المخرج إبراهيم سامي حسن، وفي اول خطوة له على مسرح مدينة الناصرية وأيضا بالمؤلف علاء حسين عجيمي، وهو معروف بكتابة القصة القصيرة وهذه أولى مبادراته على مستوى الكتابة والتأليف في المسرح، وأيضا بجهود الممثلين الذين قاموا بتأدية أدوار المكفوفين وهم مكفوفون بالأصل "أسماء عبدالخضر، دعاء الحسيناوي، فاطمة هاشم، حامد الخزاعي، علي الخزاعي" وبالفنيين الآخرين "طه حسين، أحمد الأعرجي، مقتدى كامل لويز".
فتحيةٌ كبيرةٌ لجهودهم وهم يحاولون التعريف وتسليط الأضواء على فعل ودور شريحة المكفوفين والتذكير بضرورة الحضور الإنساني لهم ولدورهم الآدمي في المجتمع.