أحلام نزيل

ثقافة 2025/03/04
...

  حاتم حسين


قالت زوجتي بصبرها المعهود "السبت أول يومِ دوامٍ للمدرسة، ومعاذ لا يملك حذاء" نزل الخبر كالصاعقة على سمعي، كيف سيذهب في أول يوم الى المدرسة وهو لا يملك حذاء؟ بل لا نملك في البيت فطوراً، لكنَّ عِزّة نفسي وكبريائي منعتني أن أطلب من أخي  وزوجته، شاهدت "علاوي" في فناء البيت ناديت عليه،  وهمستُ في أذنه سراً، وأخبرته: أن عمّك لا يملك فطوراً لأولاده، كنت على علاقة طيبة مع "علاوى" ذي العشر سنين، نسكن في مشتملٍ ذي طابقين، وأنا أسكن في الطابق الثاني، شاورته أن يجلب خفيةٓ ولو بيضةً واحدة، لمعاذ وأختهِ؛ أخبرته أن يبقى الأمر سرّاً بيننا إلى أن أجد عملآً، وأن لا يخبر أمّه وأباه. فهم "علاوي" المتعاطف معي الأمر، وسرعان ما اختفى، وجاء ببيضتين وقطعاً من الجبن والصمون، فأكلنا بشهيّة، ومرّ ذلك الصباح بفرج من الله وبموقف "علاوي" النبيل ومساندته لي والذي لن أنساه أبداً.

كان عليَّ أن أسعى، وأتحرّك وأن لا أجلس في المهد مثل طفلٍ رضيع، تذكرت تلك الساعات الأولى من خلِال خروجي من السجن بقرار العفو العام، بجيوبٍ فارغة تعلن الإفلاس من النقود. حين أوقفت سيارة التاكسي لتحملني، لكنّي أومأت اليه وأخرجت له جيوبي البيضاء الفارغة لأعلن له أفلاسي.

السائق: أركب ولا يهمك، أنا متأكد أنت طالع من السجن الآن؟

تنهّدت وقلت له: نعم خرجت توّاً ولا أملك درهماً في جيبي.

السائق: لا عليك يا أخي أنا كنت قبلك في "الباستيل" الذي أسمه "أبو غريب".

لقطة توثقها النفس، وتبقى عالقة في الذاكرة حين أهداني ورقة نقدية من فئة الخمس والعشرين. قال: إنّها هدية لك من أخيك أرجوك لا تتفوه بشيء،  فأنا أعرف مرارة مثل هذه الظروف.. لتبقى ذكرى بيننا، افترقنا، وأنا أُطالع سيماء بغداد التي تغيّرت، وأصبحت أكثر جمالاً وأنا أشعر في داخلي بغربة فظيعة، وكأنّي لم أعش في بغداد. سنواتي الست كافية لإعطائي الدرس. وأن أنتبه كلياً لإعانة عائلتي وزوجتي وأطفالي الذين كَبُر في نفوسِهم الخذلان، والانكسار بغيابي عنهم كلّ هذه السنين. سعيت نحو حياة صحيّة وهادفة ومستقرّة كي أرفع عن عائلتي صدمة غيابي والعوز، ولكي لا أُخاطر بمستقبلي مرّةً أُخرى، مستقبل عائلتي وأطفالي، ولا أنكرُ أنّني مُجهدٌ. ومتعبٌ، ولكن بِصبّر ورضى ومرونة وقوةٍ في النفس، القوانين. بدأت أعيها وأستوعب فقراتها وأضعها أمام عيني للتطبيق،أشبه بالدروس التي يجب أن أتعلمها،وأوّلها أدركت قيمة نفسي وحرّيتي ووجودي بين أفراد عائلتي، أمسيت أكثر ثقةً بنفسي وخطواتي المدروسة في بناء سرتي.

بدأت أدرك حجم التحديات أمام سجينٍ خرج توّاً من حبسه الطويل، وأوّل تحدٍّ له الآن، أن يكون قادراً على نسيان قعدتي الطويلة ومكوثي في السجن، وأن أتكيّف وأنطلق إلى الحياة متجاوزاً حجمَ الإحباط والانكسار، والتأزّم النفسي، لأخرج من حالة اليأس والقنوط التي تحاصرني وتعيش في داخلي، رغم أنّي أعلم أنّ الشارع والمجتمع سوف لن يتعاطيا معي بتلك السهولة كي أحصل على رزقٍ وعملٍ أعيل به بيتي وعائلتي التي أرهقتها الديون والظروف، وأن أنسى تلك الطرق الخبيثة الماكرة في استحصال رزقي والتي أودت بي الى عالم الحساب والعقاب، كنت أحلم بمعيّة زوجتي أن نذهب بأطفالنا إلى المدرسة التي سجّلت فيها ابنتي التي أصبحت اليوم في الصف الرابع الابتدائي، لكنّ أطفالي وبسبب غيابي القسري عنهم أمسوا أكثر رقةً وخجلاً وتوحّداً، بل هناك شعور بالغربة حتى بيننا والذي ارتسم على محياهم ووجوهم الجميلة البريئة، عليَّ أن أجد عملا سريعا، وأبحث عن لقمة الحلال، رغم أنّي وكلّ هذه السنوات ما زلت أحاول مسح ذاكرتي من صور الإهانة والضرب وأساليب التحقيق التي جعلتني مأزوماً "وقافل" على الحياة بل فقدت شهيّتي ورغبتي في تذوق الطعام، وأنا في تلك الغرفة ذات المصباح الأحمر الخافت الشبيه بقرص الشمس الأحمر حين يتسلّل نحو الغروب، رغم كلّ هذا تنفّستُ الصعداء، أترقّبُ الفجر كي أخرج وأطرق الأبواب، وأنا ممتن لنفسي الهادئة المطمئنة التي غادرت هشاشتها وضعفها لأطرق أبواب الحلال.

لا بدّ أن تُفتح أمامي، أن آتي لأولادي بثياب جديدة فنحن نقترب من  شهر رمضان وأيام العيد، أن أسعى لسعادة بيتي الخرب الذي هدّمتُه بنفسي.

كان لا بدّ لي أيضاً أن أدفع الثمن. وها هو الثمن يتجلّى في ملامح أولادي الصغار، أولادي الذين تخلّيت عنهم في لحظة طيشٍ.

كان عليَّ تجنّبها وعدم السقوط فيها، بل كان عليَّ أن أضع مستقبل أولادي وزوجتي أمام عيني. وها أنا اليوم أحاول التغلّب على نفسي وضعفي وأطماعي المريضة ولأعالج ضبط وترتيب حياتي. فجأة صادفني نزيلٌ سابقٌ خرج معي بقرار العفو، وجدته يطلب مني طلباً غريباً لم أتوقّعه منه، وأنا أفكر في اصلاح نفسي وان لا أعود مرة أخرى. أن أدّله على بيت ثري وغني ليُخطّط لسرقته.

صعقت من طلبه ولم أتحمّل سَماعُه، مسكت بيده بقوة لأسلّمة لمركز الشرطة القريب، لكنه أخذ يرجو ويتوسّل أن أتّركه، اخبرته وحذرته إيّاك أن تُرينيّ وجهك مرة أخرى. فغرفة السجن ما زالت بانتظارك. حين ذاك أيقنتُ أنني أسيُر في طريقٍ جديد سيقودني الى سعادة منتظرة.