وارد بدر السالم
لا نعتقد بأهمية وجود كتاب تعليمي في كيفية تركيب و"صناعة" القصة والرواية والسرديات الأخرى. وما نجده من كتب بهذا الخصوص هي ذات طبيعة تجارية ليست ذات قيمة جمالية ومعرفية، فلا يمكن أن يصنع أديب من كتاب ذي موجِّهات ساذجة ومدرسيات سطحية. ولا يكون التعليم الأدبي ورقياً في الأحوال كلها ولا شفاهياً أيضاً.
فثمة موجبات تصنع الحالة الأدبية وتسهم في نموها البنيوي، ومن ثمَّ لا علاقة بموضوعة الـ "التعليم" لصناعة أديب يتوخى كتابة رواية أو قصة أو مسرحية. وهذا من البديهيات التي ينبغي أن نتعرّف عليها بدايةً.
الموجهات الإيجابية التي تساعد الموهوب على نمو تجربته الأدبية غير معروفة المنشأ غالباً، لكن يمكن المرور عليها بشكل ينبّه على اعتمادها في المراحل التكوينية كلها: الفطرة. الإلهام. الوحي. الرؤيا. الموهبة. التخاطر. إنها ظواهر غامضة لا نستطيع التنبؤ بأوقاتها ولا تسبيبها ولا تفسيرها إلا بالحد الأدنى من المعرفة. وحتى هذه المعرفة لا تخرج عن شروط روحانيَّة عليا ذات طبيعة خاصة ليس من السهل العثور على أي سبب يمكن له أن يكشف لنا واقعة الوحي أو الإلهام أو الرؤيا أو التخاطر. وكثيراً ما كان علم النفس يجازف بإيجاد أسباب لهذه الموحيات، لكنه لم يتوصل كثيراً الى أسبابها. بل عُدّت الموهبة قدراً لطيفاً للإنسان تتوجب تنميته والإحاطة به جمالياً ومعرفياً.
إذا كانت الموهبة تنمو في بيئة أدبية وعلمية ومحيط يساعد على النمو والنشأة، فهذا ممكن الى حدود معينة، والزمن كفيل بأن يقدم تلك الموهبة الى واجهتها الصحيحة إن كانت في تصاعد حيوي نسبي. علماً أن لا دورَ واضحاً للتوريث الأدبي في هذا الموضوع. فكثير من الأدباء العالميين والعرب لم يورّثوا مواهبهم الى أولادهم وبناتهم. والقليل جداً ممن تركوا بصماتهم الشخصية في هذا الميدان على ذويهم من الأبناء والبنات. وهذه من النوادر الجينيَّة التي علينا أن نتعامل معها علمياً لا أدبياً. فالعلم يتحقق من هذه الندرة لا الأدب.
أما موجبات التكوين الأدبي فهي شائكة نسبياً، من نواة الموهبة، الى الظروف الاجتماعية، الى البيئة، الى المحيط الثقافي العام، الى كل شيء يتضافر ليقدّم الوجود الأدبي بشكله الصحيح. وهذا الشائكية هي زمنية بمراحل متعاقبة فيها من الصعوبة الشيء الكثير. فليس سهلاً أن يصبح الإنسان أديباً. كاتبَ رواية أو قصة أو مسرحية أو شاعراً. فالموضوع ليس وظيفة أو إشغالَ حيّز منها. بل إنه جزءٌ مركّب من الشخصية ذاتها. يلتقي بقصة الفطرة والإلهام والوحي والرؤيا والتخاطر.
ولتفكيك هذه المفردات يتوجب التعامل معها على أنها ربما "مصادفة" من مصادفات الحياة. وليست جينية بالضرورة. وليس للتوريث فيها مكان آمن. لكن في الأحوال كلها، ومع المسار الزمني نتعلم من شواهد الأدب الكثيرة، وسِيَر المؤلفين والكتّاب والظروف التي جعلت منهم أعلاماً. فلا وجود لثوابت أدبية قاطعة في الملاحظات النقدية والقراءات المتعددة من المناشئ كلها. كما لا يمكن أن نرتكن الى نظريات نقديَّة تعزز الثوابت أو تقترحها الى زمن طويل؛ فالعلاقة الزمنية بيانية في ضوء متغيرات كثيرة تحدث في الحياة، لا سيما العلمية والتكنولوجية والإلكترونية، الأمر الذي يجذب معه متغيرات على الصعيد العملي في وسائل التعبير والعلاقة في خلاصاتها اليومية، ومنها العلاقات الثقافية والأدبية الخالصة.
ونرى في هذا بأن صناعة الأدب شاقة لو عددناها صناعة وهي بعضُ ذلك، لكن مستحدثات العلم الأدبي في صراع مع الجديد من العلم التجريبي، وهذا ينعكس بدوره على المفردات النقدية التي تصاحب مثل هذه التحولات العلمية العظيمة، ولا شك بأن موضوعة الثقافة العامة تدخل في هذه الميادين البحثية والإبداعية والدراسية. فالثقافة العامة بوصفها وسطاً تفاعلياً مرناً تتأثر ببطء في تلك الوسائل المتعاضدة فيما بينها، لإيصال فكرة التغيير الجمالي في وسائله الكثيرة، التي تتعامل مع الزمن بوصفه وحدة قادرة على أن تكون منتجة دائماً، باستمراريتها على التطور المكاني في العلوم بأنواعها. وهذا يقتضي تمرير فكرة الثقافة على موشور الزمن ذاته، فليست الثقافة آلة يمكن تغيير صواميلها ومفكّاتها. بل العمل على استيعاب التطور الفكري لها عبر مستجدات الحداثة المتنوعة. ما من شأنه أن يغير "الطبع" الثقافي العام لوجوده في متغيرات عامة.
الموهبة الأدبية ليست ناتجاً من نواتج الواقع المضاء بالعلوم والتجارب ومحاولات إنشاء أجيال بهذا الخط، إنما - كما ذكرنا- هي نتاج مُلهِم غامض ليست له علاقة بالعلم ومساراته، ومن ثم فهي نبوءة داخلية لا يمكن توجيه الأسباب لها ومعرفة مضامينها السريَّة. غير أن العلم العام، الذي يتقدم بالحضارة الإنسانية الى آفاق بعيدة يمكن أن يقدّم إيحاءات جمالية للمواهب الأدبية والعلمية معاً، حينما يفتح الحياة ويوفر الفرص الكبيرة لها.
إنَّ تركيب المواهب في السرد مثلاً، هو في ترتيبها وتنظيمها وعرض الأرشيف الثقافي العالمي كاملاً أمامها. بمعنى محاولة توثيق الإجراءات الزمنية السالفة في وجودها الإبداعي التي قادها كبار المبدعين، بما يشكل لها رؤية واضحة في الجهد الزمني الإبداعي المبذول أمامها، ومن ثم رؤيا تستدرج الموهبة الى حقول الكتابة المتشعبة، بما يضفي عليها طابعاً جدياً، متوفراً على شقاء الكتابة ومعاناتها الواصلة بين الماضي والحاضر في ظروف كتابة جديدة، لها أسبقيات التوجه الى الحاضر المختلف عن ماضي الكتابة.