حين تخوننا الكتب.. إعادة القراءة وتحوّلات الوعي

ثقافة 2025/03/05
...

أمجد نجم الزيدي

تعتبر إعادة القراءة للكتب التي سبق أن اطلعنا عليها في مراحل الطفولة أو الصبا تجربة معرفية مركّبة تتجاوز مجرد استعادة نصوص مألوفة، إذ إنها فعل تأويلي متجدد يتيح للقارئ استرجاع تمثُّلاته السابقة، وفي الوقت ذاته يعيد مساءلة تحولاته الفكرية وتبدلات رؤيته للعالم

فالنصُّ الذي كان يوماً ما مصدراً للمتعة أو الإلهام قد يغدو موضع تشكيك وإعادة نظر، تماماً كما قد تنبثق منه دلالات جديدة لم تكن في متناول وعي القارئ عند قراءته الأولى، وبينما تمنح إعادة القراءة إحساساً بالألفة والاستقرار عبر استعادة التجربة القرائية الأولى، فإنها قد تفضي كذلك إلى حالة من التوتر والاضطراب، إذ تواجه القارئ بحقيقة أن علاقته بالنصِّ ليست ثابتة، بل محكومة بحركية تجربته الحياتية وتطور وعيه النقدي، وبهذا، تغدو إعادة القراءة ممارسة تأملية مستمرة في جوهر العلاقة بين النص والمتلقي، كاشفةً عن البعد النفسي العميق للقراءة بوصفها عملية تأويلية لا تنفكُّ عن التشكُّل وإعادة التفسير.

تعتبر إعادة القراءة ظاهرة أدبية ونفسية مركّبة، تتجاوز كونها مجرّد استرجاع لنصوص مألوفة إلى كونها تجربة معرفية ووجدانية تعيد تشكيل العلاقة بين القارئ والنص، تستكشف باتريشيا ماير سباكس في كتابها (On Rereading)، الأثر النفسي لإعادة القراءة، مسلّطةً الضوء على التوتر القائم بين الشعور بالأمان الناتج عن العودة إلى نصوص مألوفة، وبين إدراك القارئ المستجدّ لتحوّله الذاتي، مما قد يؤدي إلى زعزعة استقراره الإدراكي والوجداني.

لطالما ارتبطت إعادة القراءة بالرغبة في استعادة الألفة والطمأنينة التي يمنحها النص المألوف، فالنصوص التي سبق للقارئ أن انخرط فيها توفر ملاذاً نفسياً في مواجهة تقلبات الحياة، حيث يجد القارئ في العودة إليها نوعاً من الثبات وسط تحوّلاته الشخصية والثقافية؛ تتجلى هذه الفكرة في تحليل سباكس حين تشير إلى أن إعادة قراءة النصوص التي كانت “كنوزاً عاطفية في مراحل سابقة من الحياة تمنح القارئ تجربة مهدئة، بل تستند إلى ما تسميه “ضبابية النوستالجيا haze of nostalgia “. فهي لا تقتصر على استعادة النص في حد ذاته، بل تمتد إلى استعادة الذات التي كانت تقرأه في الماضي، لتصبح إعادة القراءة وسيلةً لمساءلة الزمن واستعادة هويةٍ قد تكون قد تآكلت أو تبدّلت.

فعلى الرغم من الطمأنينة التي توفرها إعادة القراءة، فإنها تنطوي كذلك على عنصر زعزعة الإدراك، حيث يدرك القارئ عند إعادة زيارته لنص مألوف أن تجربته السابقة لم تكن نهائية أو مطلقة، بل خاضعة للتحوّل والتأويل المستمر؛ فالنص الذي كان يثير الإعجاب في الماضي قد يفقد بريقه عند قراءته من جديد، كما أن الشخصيات التي بدت مُلهمة أو مُحببة قد تُقرأ بعيون نقدية مختلفة مع مرور الزمن، تعبر سباكس عن هذا التحوّل بقولها (تمنح إعادة قراءة تلك الكتب الثمينة كبالغين تجربة مريحة وسلسة، ويرجع ذلك جزئياً إلى ما أطلقت عليه سابقاً بـ” ضبابية النوستالجيا”. كما أنها تتيح للقارئ متعة اكتشاف الأفكار غير المتوقعة، إذ يدرك أن هذه الكتب المألوفة تخفي بين صفحاتها أكثر مما كان يظن عند قراءتها لأول مرة. ومع ذلك، فإن اللذة الأعمق في إعادة القراءة ربما تكمن في استعادة الذات السابقة، تلك التي كنا نظن أننا فقدناه.) (ص53)، يشير هذا الاقتباس إلى أن إعادة القراءة لا تقتصر على إعادة اكتشاف النص، بل تتعداه إلى إعادة اكتشاف الذات التي قرأت هذا النص في مرحلة سابقة، وهنا يكمن البعد الجدلي لإعادة القراءة؛ فهي عملية استرجاعٍ واستكشافٍ في آنٍ واحد، إذ تُذكّر القارئ بذاته الماضية، لكنها في الوقت نفسه تضعه أمام حقيقة تحوّله، مما قد يخلق شعوراً باللااستقرار.

    يُثير التوتر القائم بين الاستقرار والتحوّل في تجربة إعادة القراءة تساؤلات أوسع حول طبيعة القراءة نفسها، وحدود التأويل، واستقلالية النص عن القارئ؛ فإذا كانت القراءة الأولى تستند إلى عنصر المفاجأة والاكتشاف، فإن إعادة القراءة تكشف عن طبقات جديدة من المعنى لم تكن متاحة سابقاً، أو ربما لم يكن القارئ مهيأً لاستقبالها بعد، وهكذا، تتحول إعادة القراءة إلى فعل نقدي، يتيح للقارئ فرصة مراجعة مواقفه السابقة وتوسيع أفق فهمه، ليس للنصِّ فحسب، بل لذاته أيضاً.

إنّ هذه الظاهرة تحمل بُعداً فلسفياً يتقاطع مع نظريات التلقي، حيث تطرح سؤالاً جوهرياً، هل يظلّ النصُّ ثابتاً أم أنّه يتغيّر مع تغيّر قارئه؟ إن النصَّ في جوهره لا يتغيّر، لكن تجربة القارئ هي التي تعيد تشكيله في كل قراءة جديدة، وبذلك، تظلّ إعادة القراءة تتأرجح بين الثبات والتبدل، بين استعادة الأمان والوقوع في مفاجآت التأويل.

تشكّل إعادة القراءة تجربةً مزدوجة تجمع بين الحنين إلى الماضي والاكتشاف المستمر للذات والنصِّ، فهي توفر للقارئ إحساساً بالأمان عبر العودة إلى نصوصٍ مألوفة، لكنها في الوقت ذاته قد تكشف له عن تحوّلاته الإدراكية، مما يجعله يواجه حالة عدم استقرار جديدة، وبهذا المعنى، فإن إعادة القراءة ليست مجرد استعادة للماضي، بل هي أيضاً مرآة تعكس عمق التغيرات التي تطرأ على القارئ بمرور الزمن، مما يجعلها تجربة نقدية ووجودية في آن واحد.