التجربة الجماليَّة في كتاب التمثال لغونتر غراس

ثقافة 2025/03/05
...

ترجمة: نجاح الجبيلي 

تكتب مارتا ريبون من صحيفة "الموند" الإسبانية عن "التمثال"، وهو كتاب صغير للكاتب الألماني غونتر غراس حول افتتانه بمنحوتة من العصور الوسطى، تُقرأ كلعبة أدبية تستكشف الروابط العميقة والسرية التي يمكن أن تولدها التجربة الجمالية.

عند سؤاله من قبل وسيلة إعلامية ألمانية عن المرأة التي يود قضاء أمسية معها من تاريخ الفن، ذكر أومبرتو إيكو اسم "أوتا فون ناومبورغ"، التي وُلدت حوالي مطلع الألفية وجرى نحت تمثالها بالحجر متعدد الألوان في القرن الثالث عشر، تقديراً لها لأنها كانت من ضمن مجموعة من اثنتي عشرة شخصية تجسد مؤسسي وكبار داعمي الكنيسة القديمة في كاتدرائية ناومبورغ.

كتب إيكو: "من بين العديد من الاتهامات التي وُجّهت إلى هذه الفترة التي افتقرت إلى هوية (باستثناء كونها فترة العصور الوسطى)، كان هناك اتهام بعدم امتلاكها حساسية جمالية"، وهو ما حاول دحضه في كتابه "الفن والجمال في العصور الوسطى".

إنّ أوتا فون ناومبورغ مثال نموذجي للجمال الآسر. فبفضل جاذبيتها ورشاقتها، تبدو وكأنها تنبض بالحياة، ربما لأن النحات المجهول الذي أنجزها منحها إيماءة تبدو حديثة: ترفع بيدها اليمنى طوق عباءتها، كما لو كانت تحتمي من زوجها، إكهارد الثاني، الذي كان محارباً شرساً، يسعى دوماً لتوسيع أراضيه، ويبث الرعب في نفوس رعاياه.

ملامح أوتا، التي استُغلت خلال الحقبة النازية كصورة مثالية للمرأة ذات النسل الآري، وهالتها المأساوية الكئيبة، ولّدت لدى الروائي الألماني غونتر غراس (1927 - 2015 ) هوساً يكاد يكون جسدياً ومطارداً. خصص غراس، الحائز على جائزة نوبل عام 1999 والذي كان أيضاً فناناً تشكيلياً، لها كتاباً من 80 صفحة، أتمّ مسودته الأخيرة (غير النهائية) عام 2003، كما أنجز سلسلة من اللوحات المطبوعة بالحجر (ليثوغراف) مستوحاة من تماثيل ناومبورغ. أما كتاب "التمثال"، فهو إصدار منقح لهذا النص، لكنه لم يُراجع إلا في ثلثه فقط.

إنّ هذا الكتاب الصغير، يقع بين السيرة الذاتية والتأمل الحلمي حول شخصيات ناومبورغ، سواء الشخصيات التاريخية التي تمثلها أو النماذج البسيطة التي تخيّل أن النحات استلهم منها ملامحها، يرافق عقوداً من حياة الكاتب، منذ زيارته الأولى للمدن الكئيبة في ألمانيا الشرقية، حين كان جدار برلين لا يزال قائماً "كما لو كان عادةً قديمة، والقوى العظمى ما زالت تتبادل النباح، وإن كان بصوت خافت"، وصولاً إلى إعادة التوحيد وظهور اليورو. وبدعوة لإلقاء محاضرة، سنحت له فرصة "عبور الحدود"، التي استغلها بشكل خاص لزيارة المعمار الديني الذي بقي على الجانب الآخر من "دولة العمال والفلاحين".،  وكأن الساعات لا تتقدم بل تتراجع. وبشكل جانبي، يترك غونتر غراس لمحات من طفولته ورغبته الدائمة في العثور على ملاذ داخلي:

"منذ شبابي، كنت أرغب في أن أصبح غير قابل للعثور في زمن مختلف دائماً. لا ضيق منزلنا ذي الغرفتين، ولا الحياة اللاحقة في المعسكرات والثكنات، ولا ضجيج الأطفال، لم يستطع أي صوت أن يمنعني من الهروب إلى اللحظة الراهنة، حيثما كنت."

منذ لقائه الأول بتماثيل ناومبورغ، يبدأ غراس حواراً معها، وكأنها ضيوف على مائدته، حيث تتحول الصفحات البيض إلى مساحة لهذا اللقاء. يرسمها (وهي رسوم مرافقة للنص)، يتخيل محادثات يجريها معها أو بينها، ويبدأ في رؤية "أوتا ناومبورغ" في أماكن أخرى، سواء في كولونيا أو ميلانو، ليس فقط في وجوه التماثيل الحجرية الأخرى، بل أيضاً في ملامح نساء شابات يصادفهن في الشارع.

كتاب "التمثال" يُقرأ كتمرين ممتع حول الروابط العميقة والخفية التي يمكن أن يخلقها الفن بداخلنا.