الأنساق الثقافيَّة المضمرة في مسرحيَّة {تماثيل الوحوش الزجاجيَّة}

د. فقدان طاهر عوض الحلي
النص المسرحي في هذا العرض من تأليف الكاتب الأميركي "تينيسي ويليامز"، ومن إعداد محمد السباك وإخراج حسنين الرفيعي، وبمشاركة الممثلين: "مريم عادل، دانيال أحمد، سلام عباس، نوح حازم ، ومحمد السباك". وقام بمهمة الأداء الحركي الكوريغرافيا كلٌّ من "حسن عبد الرحيم، ستيف أحمد، ومقتدى علي". أما الفريق الفني، فقد تشكَل من دانيال أحمد "مساعد مخرج"، د. حميد قدح وإيمان سالم "الماكياج"، علي المطيري "الإضاءة"، إبراهيم عبد الله "الإدارة المسرحية"، عباس علي "الأزياء"، وسجاد فؤاد "تنفيذ الموسيقى". أُنتج العرض من قِبَل جامعة بابل/ كلية الفنون الجميلة، بالتعاون مع جامعة المستقبل، وعُرض ضمن فعاليات مهرجان المسرح البابلي السادس.
يشير مفهوم النسق الثقافي المضمر إلى القيم والتصورات والأعراف والتقاليد الخفية التي تحكم السلوك الاجتماعي والشخصي دون أن تكون معلنة بشكل مباشر حيث أنها تختبئ تحت عباءة النص الظاهري، هذه القيم قد تتجلى في الحوارات، والحركات والتصرفات، أو حتى في الصراعات بين الشخصيات.
في العرض المختار بوسعنا القبض على أنساق مضمرة عدة تأسس عليها خطاب العرض يمكن أن نعنونها بـ : نسق النظرة المجتمعية للأنثى "النسق الاجتماعي"، ونسق دور الأنثى "الأم" في إعادة إنتاج وتثبيت الثقافة الذكورية المضطهِدة لها، نسق التمرد ضد الأنساق التقليدية أو نسق صراع الأجيال بين التقاليد والحداثة، وما إلى ذلك .
عنوان العرض له دلالات عميقة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأنساق المضمرة لهذا العرض فهو يحمل مستويات متعددة من الدلالة ويجمع بين ما تحمله لفظة "الوحوش" من معنى وما تدلُّ عليه من دلالة توحي بالقوة، الغرابة، والرعب "التي قد تشير إلى القوى الاجتماعية الضاغطة على أفراد المجتمع كـ "التقاليد، الأدوار المفروضة، والتوقعات العائلية" وبين ما تحمله لفظة "الزجاج" من معنى يكتنز دلالة تؤشر مضامين الهشاشة والضعف والقابلية للكسر, بما يشير إلى هشاشة الشخصيات أمام هذه القوى، خاصة شخصية الأنثى المستلبة "الابنة/ لورا" التي تبدو ضعيفة باعتبار أنها لا تلبي معايير الجمال والأنوثة التي تتطلبها الذائقة المهيمنة في مجتمعها. العنوان أيضاً يلمح إلى أن جميع الشخصيات في هذا العرض تعيش في إطار زائف هشٍّ تماماً كتماثيل زجاجية يمكن أن تتحطم بسهولة عند أي صدمة. لذا يركز نصُّ العرض المعدِّ _ كما هو الحال مع النص الأصلي لويليامز _ على مسألة القمع العائلي والصراع بين الحرية والسلطة الذكورية، حيث تتحول العائلة من كونها كياناً داعماً كما ينبغي أن تكون عليه في الواقع إلى مؤسسة خانقة _ أنتجتها ثقافة ذات طابع ذكوري _ تمنع أفرادها من تحقيق ذواتهم. تتجسد سطوة هذه المؤسسة ويتجلّى فعلها وتأثيرها من خلال شخصية الأم المتسلطة، التي تفرض سيطرتها على أبنائها، خاصة "توم/الابن"، الذي يشعر بأنه مجرد عبد مملوك مهمته الوحيدة في الحياة _ كما يبدو له على الأقل _ هي العمل المُضني لإعالة الأسرة. في حين تسعى "لورا/ الابنة" للهروب إلى عالمها الداخلي كنتيجة متوَقَّعَة من أنثى داخل نظام ذي قيم ذكورية راسخة وكردِّ فعل سلبي يتشكل حياتياً ومجتمعياً في ضعفها وخضوعها التام. ومن هنا نجد أن الزواج يصبح بالنسبة للإبنة ليس مجرد أمل، ليس هناك من بأس أن تحلم بتحقُّقهِ كل أنثى/ بنت، بل قيداً اجتماعياً مفروضاً على الأنثى كحلٍّ وحيد من شأنه أن يضمن لها مستقبلها.
العرض يكشف لنا كيف أن التقاليد والسلطة العائلية قد تتحول إلى قوة قمعية، تدفع الأفراد إما للتمرد أو للانسحاب الكامل من الواقع، مما يجعل الصراع الأساسي ليس مجرد صراع نفسي داخلي، بل مواجهة واضحة بين الحرية والقيود الاجتماعية.
المسرحية، رغم سردها الظاهري لقصة عائلة بسيطة تعاني من ضغوط الحياة، تحمل في عمقها أنساقاً مضمرة تعكس أزمات اجتماعية ونفسية وثقافية متعددة. يظهر الصراع في النص من خلال أنساق خفية تعمل على تشكيل البنية الدرامية، وتكشف عن توترات بين الفرد والمجتمع، وبين الحلم والواقع، وبين السلطة ومن ليس في يده إلا الخضوع لها. ومن هنا حاولت أن أرصد بعض الأنساق المضمرة المؤثرة في العرض، وهي كما يلي:
أولاً: نسق العلاقات العائلية المتمثل بسلطة الأم ودورها في تكريس النسق الاجتماعي: تمثل الأم "أماندا" النموذج التقليدي للمرأة التي تعيش وفق منظومة اجتماعية صارمة تفرض على الأنثى أن تكون محطَّ أنظار الخطّاب. يظهر ذلك في حوارها المستمر عن أيام شبابها عندما كان لديها "سبعة عشر خاطباً"، وهي تسترجع هذا المشهد بإصرار وكأنها تريد فرضه على ابنتها "لورا". والنسق المضمر هنا: هو الزواج الذي يمثل الغاية القصوى للمرأة، وهو معيار قيمتها في المجتمع. وهذا النسق يؤثر في شخصية "لورا/ الابنة" مما يجعلها تشعر بالنقص لأنها لا تتناسب مع هذا المعيار بصورة مُرضية لمجتمعها ، فضلاً عن كونها لا تلبّي ما تتطلبه معايير أخرى تنشط في ثقافة مجتمعها، وأيضاً يؤثر في شخصية "توم/ الابن" إذ يخلق لديه إحساساً بالقهر وشعوراً مُحزِناّ مثيراً للخيبة والغضب بسبب يقينه أن هذه القيم لا تناسبه.
ثانياً: نسق التمرد ضد الأنساق التقليدية: "توم" هو الابن الذي يشعر بأنه "عبد مملوك" يعمل لدفع الإيجار، وهو وصف يحمل دلالات قمعية واضحة. النسق المضمر هنا يعبر عن أن الرجال في المجتمعات التقليدية يتحملون الأعباء المالية للأسرة، حتى لو كانوا لا يريدون ذلك. تعبير "توم" عن التمرد: يظهر عبر قراءة الكتب التي ترفضها والدته، فضلاً عن رغبته في الهروب. والنتيجة: يمثل "توم/الأبن" محاولة للتمرد على القيم التقليدية، لكنه محاصر بعلاقة "الأم" التي لا تسمح له بالاستقلال الفعلي.
ثالثاً: نسق "لورا" بين الهشاشة والضغط الاجتماعي: "لورا" شخصية خجولة وتعاني من عرج بسيط، لكنها ترى نفسها غير صالحة للزواج بسبب ذلك. هنا نجد أن النسق المضمر: الأنثى يجب أن تكون مثالية جسدياً لتكون صالحة للزواج. وكان تأثيره في "لورا": جعلها تعيش في عزلة نفسية وتشعر بأنها غير مرئية في المجتمع، مما يجعلها ترفض لقاء "جيم".
رابعاً: نسق دور الأنثى "الأم" في إعادة إنتاج وتثبيت الثقافة الذكورية: رغم أنها امرأة، إلا أن الأم تمثل صوت المجتمع الذكوري التقليدي الذي يحدد للمرأة مصيرها عبر الزواج. فهي لا تترك بنتها تختار، بل تحاول إجبارها على دخول علاقة رغماً عنها، مما يعكس أن المرأة أحياناً تكون أداة لإعادة إنتاج القيم التي تقيّدها.
خامساً: نسق الصراع الطبقي والمادي المتجسد في زواج "لورا/ الأبنة" كحلٍّ اقتصادي أكثر منه عاطفي وهذا نراه عندما يخبر "توم" والدته بأنه سيحضر لها خاطباً، تحتفي "الأم" وكأنها حصلت على فرصة اقتصادية، وليس مجرد فرصة عاطفية لابنتها. وهذا النسق يدلُّ على الهروب من الفقر كدافعٍ خفي، وحتى "جيم" الذي يبدو كشخصية مثالية، يُكشف لاحقاً أنه مجرد عامل عادي يسعى إلى تحسين وضعه الاجتماعي، ما يعكس وهم الحلم الأميركي الذي يَعِد بالنجاح لكنه غالباً ما ينتهي بخيبة الأمل.
سادساً: نسق الصراع النفسي العميق وهو انعكاس لما كان يعيشه "توم" وهو صراع داخلي بين الرغبة في التحرر "الأحلام" والواقع المليء بالذكريات المؤلمة والتوقعات التي لا يستطيع التخلص منها، فالتوتر والامتعاض والتطيُّر يشيرون إلى رغبة توم في الهروب أو التحرر من الواقع لكن الوجود المستمر لأصوات الغربان وذكريات الأب يظل يقيده في واقع مرير من فقدان، قمع داخلي، واحتياج عاطفي .
وبالنتيجة إن هذه الأنساق الثقافية المضمرة في هذا العرض عكست بأسلوب شاعري وعاطفي، المأساة الإنسانية التي يعيشها الأفراد حين تتعارض رغباتهم مع واقعهم، فيصبحون عالقين بين ما يريدونه وما هو مقدر لهم.
وأما الرؤية الإخراجية في هذا العرض، اعتمد المخرج في تقديم المشاهد المسرحية على أسلوب تعبيري رمزي، مبتعداً عن المباشرة في الطرح. وقد تجلّت هذه الرؤية من خلال التوظيف الدقيق للحركات الكوريغرافية، التي جسّدت الصراع القائم بين الأحلام والواقع، مما أضفى بعداً بصرياً ودلالياً على العرض. مثّلت الحركات الكوريغرافية الصراع الداخلي العميق للشخصيات الرئيسة، وخصوصاً شخصية "لورا/ الابنة" و "توم/ الابن". فبينما عبّرت الرقصات السريعة والإيقاعية عن عالم الأحلام والأوهام، وجاءت الحركات المقيدة والبطيئة لتعكس قسوة الواقع والحقيقة التي تحاصر الشخصيات. هذا التباين في التعبير الحركي لم يكن مجرد عنصر جمالي، بل كان امتداداً بصرياً للأفكار الجوهرية للنصِّ المسرحي المُعدّ، مما يعكس التوافق العميق بين الرؤية الإخراجية والمحتوى الدرامي. يُحسب للمخرج توظيفه الدقيق للرقص الكوريغرافي، حيث لم يكن عنصراً إضافياً أو عشوائياً، بل جاء متسقاً تماماً مع البناء الدرامي للنصِّ ومتطابقاً مع أفكاره الأساسية، مما عزّز من التأثير الفني والرمزي للعرض المسرحي.
تباين الأداء التمثيلي في هذا العرض من حيث تجسيد الشخصيات وتقديم الأدوار. فقد نجحت الفنانة مريم عادل، التي أدّت دور الأم "اماندا"، إلى حدٍّ ما في إبراز أبعاد الشخصية وحالاتها النفسية وصراعاتها الداخلية، مستندةً إلى مزيجٍ من الهدوء الذاتي والعنفوان التسلطي، مما منح أداءها طابعاً متزناً ومقنعاً. وأما شخصية "لورا"، التي جسدتها الفنانة الشابة سلام عباس، فقد قُدّمتها باحترافية عالية، إذ تميز أداؤها بمستوى عالٍ من المشاعر والأحاسيس، إلى جانب امتلاكها تكنيكاً متقناً في الرقص، والاسترخاء، والتركيز، مما أضفى عمقاً وحيوية على الشخصية. وأما بالنسبة لشخصية "توم"، التي أداها الفنان دانيال أحمد، فقد نجح إلى حدٍّ ما في الوصول إلى مكنونات الشخصية، حيث قدم أداءً تمثيلياً مقبولاً لدى الجمهور، مع إظهارٍ مبررٍ ومتقن لمعاناة الشخصية الداخلية.
وأما شخصية "جيم" التي جسدها الفنان نوح حازم، فقد تميز أداؤه بالجسد المطواع والتركيز العالي، إضافةً إلى حضوره القوي على خشبة المسرح. وقد استطاع عند ظهوره تغيير إيقاع المشهد من البطيء إلى التوازن والانسجام مع العرض، فضلاً عن نجاحه في مزج مشاعره وأحاسيسه الذاتية مع ملامح الشخصية التي جسدها بإتقان. وبالنسبة لأداء المجموعة الحركية، التي تألّفت من "مقتدى علي, حسن الحميري, ستيف أحمد"، فقد كانت عنصراً أساسياً في العرض، إذ أسهموا بشكلٍ فعّال في الأداء والتقمص والاسترخاء، بالإضافة إلى دعمهم للممثلين الرئيسيين، مما عزز الانسجام والتناسق مع النزعات النفسية والصراعات الداخلية للشخصيات، وساهم في تكامل العرض بصرياً وديناميكياً.
وقد أسهم الماكياج المسرحي، الذي نفذه في هذا العرض د. حميد قدح وإيمان سالم، في إعادة تشكيل ملامح الشخصيات بما يعزز من أبعادها الدرامية ويعمّق تفاعلها مع محيطها الاجتماعي والثقافي. فقد لعب الماكياج دوراً محورياً في تجسيد التحولات النفسية والجسدية للشخصيات، مما ساعد على إبراز الفروقات الطبقية والسمات الفردية لكل شخصية داخل سياقها العائلي والمجتمعي. ومن خلال التوظيف المدروس للألوان والخطوط والتأثيرات البصرية، استطاع الماكياج أن يكون أداة دائمة التأثير في إثراء الأداء التمثيلي وتعزيز واقعية الشخصيات في المسرحية.
وأما بالنسبة للأزياء جاءت متماشية مع البيئة الدرامية للشخصيات المسرحية، حيث عكست أبعادها النفسية والاجتماعية، مما ساهم في تعزيز فهم الجمهور لطبيعة كل شخصية ودورها داخل العرض. وأما توظيف الإضاءة في هذا العرض فقد تم بطريقة تتناسب _ إلى حدٍّ ما _ مع طبيعة المشاهد، بهدف تعزيز الإحساس بالمعاناة والصراعات النفسية والاجتماعية التي تمر بها أفراد العائلة. لم تكن المؤثرات الموسيقية بالمستوى المطلوب من حيث الأداء والتوظيف، إلا أن المصمم، رغم عدم اكتمال رؤيته، نجح في إدراجها داخل العرض من خلال مزج أصوات غريبة تنأى عن الواقع وتقترب من الخيال. وقد أسهم هذا المزج في خلق أجواء رمزية تعبيرية ذات طابع حُلمي، عكست الصراعات الداخلية للشخصيات المسرحية، مضيفةً بعداً نفسياً يعزز من البنية الدرامية للعمل. ورغم أن الديكور كان اقتصادياً للغاية، إلا أن طبيعة العرض التي تتناول أحداث عائلة تدور داخل المنزل تتطلب تأثيثاً أكثر ليعكس البيئة المكانية بشكل أوضح. ومع ذلك، يمكن تحقيق هذا من دون المساس بالاتجاه الرمزي أو التعبيري للعرض، من خلال استخدام عناصر بسيطة وذات دلالات قوية، مثل قطع أثاثٍ توحي بالحياة اليومية للعائلة دون أن تشتِّت انتباه الجمهور عن الجوهر الرمزي للعمل. وقد توصل هذا التحليل إلى النتائج الاتية:
ا. عكست الأنساق الثقافية المضمرة التي اكتشفت في هذا العرض الصراع بين الفرد والمجتمع، والحرية والقيود الاجتماعية، لاسيما:
1- نسق الأم الذكوري الذي فرض معايير الزواج على "لورا" وبنفس الوقت أثر في "توم".
2- نسق الصراع النفسي لـ "توم" الذي كان يعاني من صراع داخلي بين الرغبة في التحرر والذكريات المؤلمة، مما يعكس القمع الداخلي.
3- نسق الصراع النفسي لـ "لورا" التي عاشت ضغطاً اجتماعياً بسبب معايير الجمال، مما يدفعها للعزلة.
4- نسق الصراع الطبقي والمادي: الزواج يُعتبر حلاً اقتصادياً وليس عاطفياً، حيث يُستخدم كوسيلة للهروب من الفقر.
ب- أن توظيف المخرج للحركات الكوريغرافية "الرقص الدرامي" ما هي إلا تجسيد للصراع بين الأحلام والواقع، مما عزز من العمق البصري والرمزي للعرض.
ت- تميز الأداء التمثيلي للشخصيات المُقدمة في هذا العرض بالاحترافية من حيث الاداء القوي وخصوصاً الشخصيات الرئيسية، والمجموعة الحركية.
ث- لعبت عناصر العرض المسرحي الأخرى دوراً بارزاً في عكس التحولات النفسية والجسدية للشخصيات، ودعمت فهم الشخصيات ودورها، وعززت المعاناة والصراعات الداخلية، فضلاً عن أنها خلقت أجواء رمزية وحُلمية.