أثير الهاشمي
تُفصّل الكاتبة الهولنديَّة مينيكيه شيبر القول في كتابها (ومن بعدنا الطوفان. حكاية نهاية البشريَّة) ترجمة عبد الرحيم يوسف، عن تأريخ نهاية البشريَّة، من خلال سردها للأحداث التأريخيَّة القديمة التي تنبأت بنهاية البشريَّة، إلى وقت تأليف الكتاب.
حاولت الكاتبة شيبر أنْ تخلق أسلوباً سردياً حكائياً، اعتمدت فيه على رؤية أدبيَّة تأريخيَّة ومثيولوجيَّة، بدأت رؤيتها تلك بجملة الموضوع الرئيس للكتاب (لو كان للبشريَّة بداية، فهل ستصير إلى نهاية كذلك).
ترى شيبر أنَّ البشريَّة مرّت بمراحل تأريخيَّة مهمَّة، اعتمدت في رؤيتها حول نهاية العالم، فلكلّ مرحلة تاريخيَّة وضوحها وغموضها، تعتمد في ماهيتها على أسسٍ معينة ومفاهيم محددة.
انطلقت الكاتبة برؤيته من التأريخ، حيث مغزى نهاية العالم بما ورد من حقيقة دينيَّة، فذكرت أمثلتها التي تسند على قلق النهاية من القرآن الكريم، فاستشهدت الكاتبة شيبر بقولهِ تعالى (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّۢ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ ۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيل).
تحاول الكاتبة من خلال هذه الآيَّة ودلالات المعنى الواردة فيها أنْ تطرحَ أسئلتها القلقة حول الكون، وحول بداية الأرض ونهايتها، ومن ثم حول الإنسان وقلقه.
حاولت الكاتبة أيضاً أنْ تختصر السؤال الذي لم يزل يدور في ذهن كل إنسان؛ على أمل الوصول إلى جملة من الطمأنينة أو الاكتفاء بما تحمله من قلق وجودي.
سواء على مستوى الإنسان وعلاقته بالأرض أو على مستوى الإنسان وعلاقته بالآخر؛ فضلاً عن قضيَّة المنقذ وما شابه قبل النهاية المحتمة.
تؤشّر شيبر ما سمعته وما اطلعت عليه عندما أكّدت ضرورة نفي الفكرة التي تؤمن بنهاية العالم، وخاصيَّة التوقع الذي ينصّ على الطوفان، فتنقل ما قرأته عن الماضي، فكرة وتأويلاً.
إنّ من أهم الرؤى التي اعتمدت عليها شيبر في كتابها، هي التنبؤات عن قلق النهاية، إذ إنّ لكل عصر أو مرحلة تمرّ على البشريَّة تفترض رؤاها المرتبطة بمصير الإنسان، لا سيما بما يتعلّق بنهاية العالم.
تؤكّد الكاتبة ذلك بطريقة سرديَّة أدبيَّة وهي تنقل مقولة لمدام دي بومبادور: (يجب ألا نحزن ستسقط مريضاً، نحن ومن بعدنا الطوفان).
صيغت هذه المقولة بطريقة مرحة من قبلها إلى لويس الخامس عشر عام ١٧٥٧ عندما شعر الملك بقلقٍ فظيعٍ نحو المستقبل بعد الهزائم التي مُنيت بها جيوشه خلال حرب السنوات السبع.
وتعقب شيبر على مقولة المدام دي بومبادور بأنها لم تتحقق، إذ لم يأتِ الطوفان الذي أشارت إليه، فكلماتها لما تزل ذائعة كقولٍ سائر، وهي تردد صدى روايات أسطوريَّة قديمة من اعتقاد الناس في نهاية مهلكة للبشريَّة.
تعتمد الكاتبة في رؤيتها حول نهاية العالم بالرجوع إلى الأساطير بوصفها قصصاً سرديَّة، فهي ترى أنَّ كل أسطورة هي قصة لكنْ ليست كل قصة أسطورة، بمعنى أنَّ الأساطير تُبنى بصورة سرديَّة قصصيَّة لها من الخيال ما لا يمكن تصديقه ومن الواقع ما لا يمكن تحقيقه.
أوردت الكاتبة أمثلة كثيرة حول الأساطير التي ظلّت عالقة في أذهان الناس بصورة مختلفة ورؤى متعددة، لكنها تصبُّ في بوتقة واحدة وهي سرديات لها خصائص القصة من خيالٍ ورمزٍ وإيحاء، كما أنَّ تلك الأساطير تتعامل مع أسئلة جمعيَّة، تلك الأسئلة تؤثر في المجتمع، ومنها ما تثيره من قلقٍ وجودي، وتضعها في موضع المناقشة، كمسألتي الحياة والموت، أو البداية والنهاية.
تركّز الكاتبة على هذه المسائل، فهي ترى أنَّ القصص الدائرة حول نهاية البشريَّة تستكشف سؤالاً ملحاً:
إلى أيّ حدّ نحن قادرون في التعامل مع الموت؟! سواء على مستوى جزئي أم على مستوى كلي؟
تورد الكاتبة قصصاً أسطوريَّة حول بداية البشريَّة والخلق والآلهة، من خلال سرد قصص الأساطير القديمة من بلاد ما بين النهرين (العراق) كقصة الطوفان التي كُتبت على ألواحٍ طينيَّة، هذه القصة أُدخلت في ملحمة جلجامش الشهيرة، التي حكاها (أوتنابيشتم) العجوز الحكيم، كان هو وزوجته هما الناجان الوحيدان من الطوفان وقدّر لهما أنْ يصبحا خالدين، أما جلجامش البطل فهو في بحثٍ يائسٍ عن الخلود، لكنه مثل كل الناس على وجه الأرض يجب أنْ يتقبلَ حدود الوجود البشري.
وأخرى من ملاحم وقصص أسطوريَّة هنديَّة، كملحمة (ماهابهارتا)، إذ توضح الكاتبة أن تلك الملحمة تنصًّ على أنَّ الأرض أصبحت ممتلئة بالبشر الخالدين، حتى أنها - أيّ الأرض - لم تستطع تحمل العبء بعد ذلك.
تؤكد شيبر أنَّ الناس بعد كل كارثة مهلكة لا بُدّ بالسؤال عن سرّ النهاية، هل المسألة عرضيَّة أم أنه لن يبقى هناك أي مستقبل.
تقدم الكاتبة ملخص فكرتها التي بُني عليها الكتاب، بأنّ البشريَّة ما زالت (شابة جداً) عمرها فقط 300.000 سنة، وتؤكد شيبر أنَّ نهاية البشريَّة ليست بالضرورة نهاية العالم، إذ تقول: (نحن ببساطة لا نعرف، وأهل العلم يزداد وعيهم أكثر وأكثر بقلة ما نعرفه).
ومن ثم يظلّ المستقبل مسألة إيمان بالأديان والفكر والوعي والعلم، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما يأتي أو سيأتي، سوى توقعات، قد تكون صائبة، أو خاطئة، فلا أحد يعلم الغيب إلّا الله تعالى، وتبقى قصة الطوفان عالقة في ذهن الكاتبة، تنبؤات تساقطت من دون تحقيق، حتى أنها صارت مؤمنة بالغيب لا بفكرة الطوفان وما بعدها.