الشاعر الطراز.. ثنائيَّة المُلْهِمْ والمُلْهَمْ

ثقافة 2025/03/05
...

عادل الصويري

في كتاب (النبيِّ الثائر صورة الشاعر الطراز مقاربة عرفانية للشعر الإحيائي) يشير الناقد التونسي المنذر المرزوقي مؤلف الكتاب إلى قصدية القصائد التي رثت الشاعر (أبو القاسم الشابي) بعد رحيله، ويرى أنها لم تكن قصائد للتفجّع أو للبكائيات التي اعتاد عليها شعر الرثاء العربي، بقدر ما هي قصائد تدور في الفضاء الشعري للشابي حتى أصبحت نصوصاً حوارية بين ثنائية المُلْهِم والمُلْهَمْ بعيداً عَمّا أسماه  بـ "التقييمات النقدية والمقاربات المنهجية ذات الأفق المدرسي، والنزوع التمجيدي" مؤكداً أن أدباء قليلين من المغرب العربي أثاروا انتباه نقاد المشرق العربي، ومنهم أبو القاسم الشابي الذي لقيت قصائده رواجاً في الشرق؛ لارتباطه بجماعة (أبولو).

إنَّ هذه النصوص المحتفلة بحياة قصيدة الشابي، واستدعاء عوالمها؛ جعلت المرزوقي ينظر إلى الرثائيات المتأخرة على أنها شعر إحيائي، يتخذ من ضوابط الرثاء شكلاً له؛ غير أنَّهُ يثور على الغرض منحازاً للقيم الجمالية، ناهضاً بوظيفة إحيائها؛ لتسري كالشحنات الكهربائية في أسلاك الحياة.

وعن مفردة (الطراز)؛ يقول المرزوقي إنه نظرية "ذات أهمية في المقاربات العرفانية الجديدة" إذ تشرح آليات تكوّن الكلام الشعري وتنظّمه ذهنياً، حيث يكون الاشتغال معتمداً على الخزين المعرفي العرفاني للراثي، وطبيعة فهمه لشخصية وقيمة الشخص الذي يرثيه.

ثم يتحدث عن تناص النصوص الرثائية متّكئةً على مدوَّنة الشابي الشعرية، والتي تتبعها المرزوقي على عدة مستويات، منها المعجمية، فعلى الرغم من أنَّ مفردات المعجم متاحة للجميع؛ إلّا أنَّ هناك استعمالات شكّلت رصيداً خاصّاً عند بعض التجارب المتفردة، ومنها الشابي، فيرصد الناقد تواتراً بين معجم الشابي ومعجم من رثاه، ثم التواتر على مستوى التراكيب الشعرية مثل : "لفتة الجيد، إرادة الحياة، هيكل الحب، إرادة القدر" وغيرها.

وبعد رصد التناص على مستوى المعجم، دخل المرزوقي إلى منطقة التناص مع الأبيات الأكثر شهرة وانتشاراً في قصائد الشابي، والتي رأى أن استثمارها في تلك النصوص جزء من العملية الإحيائية، "بعد إدخال بعض التغييرات عليها لتبيئتها وشحنها بمعانٍ جديدة" 

ومن الذين أخذهم المرزوقي كأمثلة لهذا التناص الشاعر رجب بن مهنا الذي ضمّن قصيدة له أشطر من أشهر قصيدة للشابي وهي قصيدة (إرادة الحياة) وعلى النحو التالي :

"إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة ... فلابُدَّ أن يركبَ الخطرا

ومن لا يُحِبُّ صعودَ الجبال ... يعشْ أبدَ الدهر مُستصغرا"

وفي نفس السياق اشتغل الشاعر أحمد خير الدين ولكن بطريقة مغايرة هي أقرب لمناقشة الفكرة من التناص معها فيقول :

إنَّ في قولكم (إذا الشعبُ يوماً ... عِلّةً للبقا وَسِرَّ الخلودِ

ثم يأخذ مثلاً آخر وهو الشاعر محمد الشعبوني الذي تناص مع القصيدة التي يقول فيها الشابي : "سأعيشُ رغم الداءِ والأعداءِ" فيقول :

"سأعيشُ في دُنيايَ رمزاً غامضاً ... لا يفهمونَ إشارتي وندائي" 

ويرى المنذر المرزوقي أنَّ هذه النماذج دليل على طاقة الحياة والتوليد في تجربة الشابي، بحيث تحولت النصوص الرثائية إلى ما أسماه بموطن حوار بين ذاكرة الشاعر الراثي، وبين المدونة الشعرية للشاعر المرثي، وأن هذه التناصات شكلت جسراً معنوياً بين الطرفين.

ثم يحاول المؤلف تأصيل صورة الشابي كشاعر طراز وفق المدرسة الرومنطيقية إذ رأى أن الشابي خير ممثل لهذه المدرسة على مستوى تونس والوطن العربي؛ بسبب نزعته الوطنية الثورية، حيث مثل الشابي أهم تمظهراتها، وللعمق الأسطوري لصورة الشاعر الطراز التي تعود تاريخياً إلى الإرث الأسطوري اليوناني، وحكايات  (هزيود) الراعي وكاتب الأغاني في القرن الثامن قبل الميلاد، والذي اختاره (زوس) وهو رب الأرباب عند اليونانيين؛ لكي ينقل رسالته إلى البشر. فكرة النبوة الشعرية في المدرسة الرومنطيقية استلهمها الشابي سواء في قصائده أو تنظيراته. ولذلك جاءت النصوص التي رثت الشابي وفق هذا التأصيل، مستلهمةً ناي (هزيود)من خلال بعض النماذج:

الشاعر حسن كامل الصيرفي يقول : "أيها المتعبُ الذي ... حطَّمَ الناي واستراح"

الشاعر صالح الخرفي يقول : "نافخَ النايِ أيُّ لحنٍ ترامى ... كالندى الغضِّ في النفوسِ الصوادي"

الشاعر مختار الوكيل يقول : "قل أنت لم تذهب وهذا الناي يُشجي سامعيه"

أما الشاعر محمد الشعبوني الذي يراه المنذر المرزوقي أجمل من جسد حالة الإحيائية على مختلف المستويات، لأنه يعمل على تقوية الحالة الحوارية بين المُلهِمِ والمُلْهَم، بحيث تستطيع ذاكرة المتلقي عقد الصلة بينهما، فيقول :

النايُ بينَ يديهِ ظَلَّ مُخَفَّفاً ... عبثاً على كتفيهِ كان ثقيلا"