أ.د عامر حسن فياض
ببصيرة وفطنة وواقعية كتب المفكر والقاضي الفرنسي (ايتيان لابوسي) عن العبودية المناهضة للتسامح والسلام المدني. ولد (لابوسي) وعاش للفترة 1533 - 1592م بعد مضي 18 عاماً على بدء حركة الاصلاح الديني وخمس سنوات على فظائع حرب الفلاحين في المانيا، وثلاث سنوات على وفاة ميكيافيلي،وعاصر جان بودان وسبق توماس هوبز بنصف قرن من الزمن وكان من أوائل من تحدثوا عن التسامح المذهبي والتسامح الاخلاقي،
وكان مقتنعاً انه بحديثه عن التسامح لا يدعو إلى ولا يدافع عن دبلوماسية ماكرة بقدر ما يعمل لصالح مثل أعلى للعدالة والكرامة، ويرى أن سياسة القمع والاقصاء والتهميش لن تؤدي إلى القضاء على الخصوم لكنها تؤدي، حتماً، إلى تفاقم حدة الخلاف والصراع بما يضع البلاد على حافة الحرب الأهلية، التي تحرم الدولة من خيرة العقول فيها.
واقترح (لابوسي) استخدام السلطة لفرض (السلام المدني) اذا ارادت ان تحافظ على عقيدتها، كما ان عليها أيضا أن تجعل عقيدتها معتدلة لا تضطهد الآخر المختلف لا دينيا ولا مذهبيا، وسرعان ما تحققت نبوءة (لابوسي) بوقوع فرنسا فريسة تلك الحرب عندما هاجم الكاثوليك البروتستانت في فرنسا يوم الاحتفال بعيد القديس بارتلمي عام 1572م.
لقد اشتهر (لابوسي) بكتابه المهم، ولعله الوحيد ايضاً، والموسوم (مقالة في العبودية الطوعية) الذي كان يتناقله اهل الفكر منذ زمن طويل بوصفه (تكريما للحرية ضد الطغاة)، ويرجح ان يكون (لابوسي) قد كتب كتابه هذا وهو في سن الثامنة عشرة، ثم طوره وانجز صيغته النهائية وهو طالب في الجامعة في عمر بين الثانية والثالثة والعشرين، لكن الكتاب لم ينشر إلا عام 1576م وبعد وفاة مؤلفه.
ويوضح عنوان الكتاب جوهره وفحواه، فهو بيان سياسي متمرد يدور حول فكرة اساسية مفادها بأن عبودية الناس للحكام المستبدين وقبولهم باستغلالهم لهم، عبودية طوعية اختيارية اكثر مما هي عبودية قسرية إرغامية، لان هؤلاء المستبدين لا يحكمون الشعوب لأنهم يمتلكون السلطة التي تساعدهم على ذلك، بل يحكمونها لأن الشعوب ترضى بذلك الحكم الاستبدادي وتسمح به وتسكت عنه، فتتطوع تطوعاً للخضوع للحكام وطاعتهم، فقد تخلى الشعب مرة عن حريته، وفضل العبودية على الحرية، وعلى هذا الحال استقرت واستمرت انظمة الطغاة.
ويمكن ان نجد تلخيصاً لذلك كله في عنوان أحد فصول الكتاب (الشعب يصنع قيوده بنفسه) وهو ما يعني ان (لابوسي) لم يربط في كتابه بين العبودية المجتمعية والهيمنة التسلطية، بل ربط بين العبودية وبين قبول الناس بها طوعاً، ورضاهم عنها وسكوتهم عليها اختياراً.
ولعل ابرز ما جاء من افكار في هذا الكتاب ما يلي:
- إن الفقرة الافتتاحية في الكتاب تتماثل والفقرة التي افتتح بها جان جاك روسو كتابه (في العقد الاجتماعي) والقائلة: “ولد الانسان حراً، لكنه رازح تحت القيود اينما كان».
- إن الانسان كائن عاقل وحر بالأصل، وقد تم صياغة الناس من طينة واحدة وفي قالب واحد لتثبت أنهم إخوة متساوون.
- إن الطغاة على ثلاثة أنواع لا فرق بينهم إلا في طريقة الوصول إلى السلطة، النوع الاول طغاة يحكمون بالوراثة والثاني طغاة يحكمون بقوة السلاح والثالث طغاة يحكمون بالانتخاب الشعبي والنوع الثالث سرعان ما يساورهم الغرور ويشعرون بالعظمة، فيتمسكون بالسلطة ويمارسون انواع الرذائل وصنوف البطش وما يفوق الطغاة الآخرين، وينشرون العبودية ويمحون ذكرى الحرية من عقول شعوبهم.
- إن الداء هو (عبودية الشعب) والسبب هو (قبول الشعب طوعياً بالعبودية ورضاه الارادي) والدواء هو (رفض الشعب الاستسلام للعبودية).
- إن الطغاة لا يكتفون باستغباء وخداع الفقراء والجهلة من رعاياهم لاستعبادهم، بل ويلجؤون في ذلك إلى إنشاء المواخير والملاعب والتستر بعباءة الدين والتنكر ببراقع الايمان لضمان حياتهم الفاسدة، حتى اصبح الذين يستغلون الدين في عمل الشر أكثر عدداً وأحسن حالاً ومالاً.
ان الكتاب يندد بالطغيان، ويطالب بالحرية ويدعو إلى السلام وحكم القانون، وان السياسة عند (لابوسي) هي (العلاقة النوعية بين الحكام والمحكومين) والحكومة تجسد للشأن العام الذي لا يشبه أنموذج المجتمع الابوي أو الاقطاعي، وإن السياسة تحتاجها الشعوب لتعيش في حرية وفقاً لعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الشعب والحاكم الذي لم ولن يكون نائباً ولا خليفة لله على الارض.