د. نصير جابر
تتشكّل علاقتنا المبكّرة مع الألوان بسبب مؤثرات كثيرة، بعضها نفسي، أو بيئي، واجتماعي، وغيرها من محدّدات أخرى متنوعة، تجعل لكلّ لون دلالة راسخة في ذاكرتنا، ومنها – أي هذا المؤثرات- ننسجُ علاقة متينة مع اللون في اللوحة التشكيلة كمتلقين، على الرغم من أن التشكيل غير معني في تراتبية الألوان أو منطقيتها الواقعية، لأنّ الرسام حرّ في جعل اللون في المكان الذي يجده مكثفا أو رامزا لمعنى يبتغيه، وحرّ أيضا في تعمّده خلخلة الثوابت التي نتبناها، لذا تبدو قراءة لوحات الفنان الشاب أحمد علي الغانمي، مثمرة وهو يتلاعب بنا من خلال لغة اللون الخصبة، حينما نتورط في التماهي مع لوحاته الصاخبة بالحوار الدال. الحوار اللوني تحديدا، حيث تضجّ اللوحة بلغة بليغة وحكايات تحتاج منا أن نصيخ السمع لها
جيداً!
فالطبيعة في أعماله، تتحرك فيها العناصر على وفق حركة اللون اللغوية، الغيوم المتلبّدة التي تبدو قريبة من الأرض، وعلى وشك أن تتحدث بلغتها التي تجيدها "المطر" يختلط فيها الأبيض الناصع مع الرمادي والأزرق، فيردّ عليها اللون المتشكّل على الأرض التي تمتزج فيها ألوان عديدة، بحوار متكامل، بينما يأخذنا المنظور إلى افتراضات كثيرة. فثمّة مشاعر تكون عادة حبيسة داخل هذا الإطار البيئي، حيث تكون العتمة في النفس، وفي الروح وفي حركة بشرية محتملة لمن هو داخل هذا الحيز اللوني المهيض. إذ ستكون داخل اللوحة شئت أم أبيت وأنت تدهش بهذه الاحترافية العالية في جذبك إلى ما تعانيه الطبيعة من وحشة من دونك وما ستعانيه أنت لو دخلت في سمفونيتها
اللونية.
أما في الحوار الأزلي الأبلغ حيث قطبي المعادلة التي لاتحلّ، المعادلة المتناقضة دائمة التوالد، فتبدو لوحة "شهرزاد وشهريار" بحوارها اللوني الضاج بالكثير من التفاصيل الدقيقة من أهم ما أنجزه الغانمي بحسب ما أظن، فهناك جمل لونية تخرج ببلاغة من رأس شهرزاد، جمل تحمل تساؤلات، نجد إجاباتها في ألوان منطلقة من رأس شهريار، هو القاتم المعتم الذي ينتظر لونا أو إشراقة منها، وهي الممتلئة بالألوان التي تحاول أن تكون مرة شجرة.
ومرة نهرا ومرة غيمة، اللون الفاصل بينمها أو مساحة الوهم التي تحدّد وتعيد العلاقة دائما إلى شغفها الأول، هي المهيمنة والأكثر بروزا وظهورا، الحوار لا ينتهي ولا يمكن توقعه حاله حال الحكايات التي تبدأ، وتنتهي بإرادة نسوية صارمة، هي تريد أن تبعده عن فكرة العنف وتروضه، جاذبة إياه إلى ربوع السلام، نلاحظ إن شكله في اللوحة يتخذ تكوينا غير آدمي، فثمّة جموح اجرامي فيه، في مقابل تلك البقع اللونية البيضاء، التي تشير من طرف خفي إلى السلام والمحبة
والطمأنينة.
وفي لوحة أخرى نجد حوارا لونيا من نوع آخر، إذ يظهر اللون الأسود بطريقة مكثفة، محدّدا تارة باللون الأبيض وأخرى بلون آخر.. مع بروز عين أو تكوين يشي بأن هذه الكومة من البروزات اللونية هو شخص، يجلس خائفا من شيء أو منتظر لذلك الشيء الذي يبدو إنه النور، ففي زاوية من اللوحة تبرز الشمس، التي تحدّد بطريقة مخاتلة فتبدو وكأنها ساعة جدارية ترعب الناظر إليها بسرعة دورانها.
اللون هو الصوت أيضا، ففي كلّ لون طبقة ما، بعضه يصلح للاحتجاج وبعضه للهمس، وبعضه يحتقب الحوار الفلسفي العميق وهناك لون للحوار العابر السطحي، وكل ذلك يمكن أن تتبعه في افتراضات التلقي التي قد لا تمتّ بصلة لما أراده الرسام أصلا، لكنها الأهم لأنها كما أشرت هي علاقتنا باللون التي تحددها حياتنا. علاقتنا الشخصية التي هي أساس تحديد المعنى في أي عمل قابل للتأويل.
أحمد علي الغانمي، فنان شاب يعدّ بالكثير، وكان قد حصل على دبلوم معهد الفنون الجميلة الديوانية 2014، ثم بكلوريوس، كلية الفنون الجميلة بابل 2021، شارك في العديد من المعارض داخل وخارج
العراق.