عندما يختفي الشغف

هدية حسين
في العام 2013 توقف الروائي الأمريكي فيليب ميلتون روث عن الكتابة بعد خمسين عاماً من العمل في مجال الإبداع، هو الذي يلقب بعملاق الأدب الأمريكي وفنان السرد، لم يقل بأن شغف الكتابة انتهى، قال عبارة واحدة واعتزل (الكفاح بالكتابة انتهى) بعدها بخمس سنوات توفي، ربما لم يكن صريحاً بما فيه الكفاية فقد يكون نهر إبداعه قد انحسر، أو لم تعد الكتابة هاجساً ملحاً إزاء كوارث العالم، أو أية أسباب أخر، وهناك العديد من الكتاب حول العالم من فضلوا الانسحاب بهدوء وبمرور الزمن ذهبوا إلى النسيان.
ترى إلى أي مدى يمكن للكاتب أن يستمر بعطائه بالشغف ذاته فلم تثلم منه الحياة بكل تناقضاتها الكثير من شغفه فيتوقف عن الكتابة، لفترة قد تطول قبل أن يعود له شغفه فيتوهج من جديد، أو تكسره الأيام فينزوي ويتوقف مشروعه تماماً؟ هل سيعترف لقرائه بأن نهر إبداعه بدأ بالانحسار أو انحسر تماماً؟ أم أنه سيستمر معانداً ومكابراً من دون أن ينتبه الى أنه يعود الى الوراء؟ حملت تساؤلاتي وطرحتها على أربعة من مبدعينا فيما إذا غادرهم الشغف بشكل نهائي ذات يوم، هل سيواجهون الأمر بشجاعة ويعترفون لقرائهم بأنهم ترجلوا عن صهوة الإبداع، أم سينزوون بعيداً ويتركون حياتهم لمسارات أخر؟ فجاءت الأجوبة مختلفة على النحو التالي:
التوازن النفسي
الروائية رغد السهيل تترك الباب موارباً وترى أن الكتابة قدر تتحكّم به المزاجيَّة، فتقول: في الحقيقة أنا شخصية مزاجيَّة ربما تتغير آرائي اعتماداً على ظروف عامة أو خاصة، لذا قطعاً لن أعلن فقداني ذلك الشغف الذي يمكن أن يعود فجأة، فالكتابة ليست قراراً أتخذه فأنفذه كفرض، إنما قدر فرض نفسه عليّ ومنحني حياة فوق الورق، وطريق أستمتع باكتشافه، ويجب الإشارة هنا أن فعل الكتابة يختلف عن النشر، فلا أعتقد أنني قد أتوقف عن الكتابة، ربما لمرحلة مؤقتة، لكن ربما أتوقف عن النشر وكثيراً ما أفكر بهذا لأسباب متعددة، إلا أن الكتابة صعب التوقف عنها، فمن خلالها أتنفس الجمال وأجد التوازن النفسي والمتعة وأكتشف ذاتي أيضاً فهي جزء من نظام حياتي الشخصية، وإذا توقفت أعرف بأنني سأعود في وقت لاحق، لست أعرف متى، لذا لا أحب إعلان هذا كي أترك الباب موارباً لنفسي.
واقع مأزوم
الروائي والكاتب المسرحي عباس لطيف يشخّص الحالة بعوامل خارجية أكثر منها ذاتية فيقول: من الظواهر المعتادة أن يصاب كل إنسان بعوامل الإحباط والانكفاء وفقدان الشغف والوقوع في حالة سكونية وسلبية، تزداد حدة هذه الظاهرة لدى الشخصيات مرهفة الإحساس من المبدعين، لاسيما لدى الشخصيات المبدعة والنخبوية اشتباكاً مع الحياة وتقلباتها وتناقضاتها وأسئلتها الوجوديَّة، ويأتي الإحباط وعدم الرغبة في الكتابة بسبب عوامل كثيرة ومتعددة من التناقض بين المثال والواقع والحلم وزيادة حدة الصراع بين الذات والآخر وزيادة حدة الوعي إزاء واقع مأزوم ومتراجع، وهيمنة التخلّف ونسق القطيع على المجتمع الذي ينتج عزلة وهامشيّة المثقف، فضلاً عن انهيار منظومة القيم في مختلف ميادين وحقول الحياة السياسية والاجتماعية والوجودية والسيكولوجية فتتجلى حالة التناقض الى أقصى درجاتها، فضلاً عن التجارب الذاتية والإحباط نتيجة عدم فهم الآخرين وعدم تقدير قيمة الوعي والإبداع، وتسلل الفساد والسلبية والقيم الرديئة الى مجتمع المثقفين وتسيد الطارئين وأنصاف المواهب وتحكمهم بمقدرات ومصائر المبدعين، أي أن هناك عوامل ذاتية وموضوعية تؤدي الى حالة الخفوت وعدم جدوى الكتابة في ظل استشراء هيمنة أنماط من التفكير المتدني والعقل النفعي، تلك الظواهر لا تستطيع شخصية المبدع الحالم والحقيقي والجاد من استيعابها أو تغييرها، وهنا تتجلى في ذاته عدة مواقف وخيارات، فهناك من يصمت ويتحول الى شخصية عادية، وربما يعمل في مهنة أخرى بعيدة، ويختار العزلة وعدم الاحتكاك بالشخصيات السلبية التي تُذكّره بالتراجع والسطحية، وهناك نمط من المبدعين الذين يتّسمون بالصلابة والقوة وبسالة العناد، ويتخذون من هذا الكم السلبي دافعاً لزيادة حجم ومعنى التحدي، ويصبح التحدي هو الشغف حين يدرك أن الاعتداد بالذات والتميز هو الوسيلة للبقاء والمقاومة، وحينها يستمتع بشيء من العزلة والاستغراق في طقوس الجمال والموسيقى والفن والتمتع بالعلاقات الإنسانية التي تعكس حلميته ووعيه المتوهّج.
حياة الكاتب
بينما يرى القاص والروائي عبد الستار البيضاني أن الكتابة مثل الحب في شغفها وأوجاعها وتعرضها للانكسار والهزيمة، لكنه لا يُقر بتوقف الشغف، يقول البيضاني: على الرغم من اختلاف الظروف والدوافع، لا أستبعد أن تكون بداية شغف الكتابة واحدة لدى جميع الكتّاب، لكنها مع نضج التجربة وتداخلها في حياة الكاتب تتخذ مسارات وأسباباً تتباين بين كاتب وآخر، فهي مثلاً عند كاتب محترف يعيش من مردوداتها مثل غراهام غرين تكون ممارسة يومية وضرورة حياتية لا تمنعه عنها مشاغل الحياة اليومية، وفي جميع الأحوال يكتب يومياً ما لا يقل عن 500 كلمة في أي مكان كان حتى لو في الشارع، يضطر للجلوس في مقهى أو في مطعم ويكتب! وتتحول الكتابة الى وظيفة يومية يداوم عليها الكاتب مثل اي موظف، كما نجد ذلك عند غابريل غارسيا ماركيز الذي يلبس بدلة عمل ويجلس أمام الطابعة يومياً من الساعة التاسعة الى الساعة الثالثة، حتى لو لم يكن لديه عمل! بينما نجدها عند كتاب آخرين تبقى هواية للتعبير عن انفعالات الكاتب ومواقفه من الحياة حتى وإن أصبح مشهوراً ولديه التزامات تجاه مؤسسات وقرّاء. في كلتا الحالتين لا يود الكاتب أن ينتهي من شغف الكتابة عنده حتى وإن نضبت مخيلته وتراجعت مفردات أدواته، لذلك يلجأ بعض الكتاب عند الوصول الى هذه الحالة إلى نشر أعمالهم التي كتبوها في بداية حياتهم الأدبية ولم تنشر قبل أن يعرفهم القراء، لعدم قناعتهم بها في حينها، أو عدم قناعة الناشرين بها.
في جميع الأحوال باعتقادي أن الكتابة ليست قراراً نتخذه أو عاطفة نتحكم بها، فهي مثل الحب يستولي على حياتنا وينبع بإزائه شغف بكل شيء، شغف بالاكتشاف والمعرفة والوجع والضيق والمواجهة عندما نجد فيها شجاعتنا وقوة حبنا، حتى يتحول هذا الشغف الى الوصل بالحياة والتعبير عنها حتى لو تمثلت أوجاع الخيبة والانكسار والهزيمة، فستكون مع قوة إنجاز النص، الأوجاع اللذيذة، لكن الإجابة عن سؤالك لا يمكن أن تتم قبل أن نجيب عن سؤال ضمني هو "هل يستطيع الكاتب أن يدرك أو يتأكد من توقف شغف الكتابة لديه؟ وكيف؟" شخصياً أشك في ذلك، فكما قلت قبل قليل إن الكتابة ليست قراراً نتخذه وإنما هو تدفق يجتاحنا، صحيح أن هذا الدفق يخضع لتأثيرات خاصة وعامة قبل أن يظهر للقراء على شكل نصوص متكاملة، لكن من الصعب علينا الجزم بشكل نهائي، قد يخمد الشغف أو يتوقف لكن الى حين، وذلك لعدم وجود عمر بايولوجي أو زمني لشغف الكتابة يجعلنا القطع بتوقفه، وهذا يرتب علينا قدراً من الحذر أن نعلن ذلك للقراء، فكثير من الكتاب توقفوا عقوداً من السنين وظنوا انتهاء شغف الكتابة لديهم، لكنهم في ما بعد قدموا أعمالاً مهمة على المستوى الشخصي، هذا السؤال والبحث عن إجابته يعزز لديّ قناعة: ان الكتابة قضية شخصية حتى وإن توجهت الى الجمهور، لذلك تبقى عملية هواجسها لدى الكاتب أحد أسرارها التي ينبغي أن يحتفظ بها لنفسه، فهي ليست واحدة لنُخضعها الى معيار موحد.
الأنا والآخر
وترى الصحفية والمترجمة منى سعيد أن الكتابة هي الرديف الحقيقي لوجودنا ولا معنى للحياة بدونها فتقول: تكاد الكتابة أن تشكل وطناً ثانياً خصوصاً عند التغرّب، فيها نبث الحنين ونخاطب الأنا والآخر معاً على الورق أو على سطح الكومبيوتر قارتنا الشاسعة، نسن قوانيننا الخاصة ونبطل كل ما يسوءنا من الشوائب التي تعطل حياتنا، هي الرديف الحقيقي لوجودنا، ودونها الفراغ والتشتت، حقاً لم يتوقف لديَّ شغف الكتابة، وإن حالت بيني وبينه ظروف صحية أو عائلية فإنني أشعر بالفقد وحتى العجز، أرى لا معنى للحياة إذا لم نتفاعل ونكتب وندوّن ما نشعر به، أحياناً تعوقني الظروف أو المزاج دونها فألجأ الى القراءة أولاً متناوشة شتى فنون المعرفة والأدب، أو أتابع برامج التلفزيون ومشاهدة الأفلام وحتى متابعة المسلسلات أحياناً تزجية للوقت، لكن ما إن أتمعن بفكرة ما تطرح عبرها حتى تتوالد لدي أفكار أخرى تستدعي الكتابة عنها، لا سيما أن لديَّ عموداً صحفياً أسبوعياً يتطلب تفاعلاً مع المجتمع، أسجل من خلاله ملاحظاتي الإيجابية لظواهر مضيئة، أو أوجه نقدي لما يزعزع استقراره وسلامه، ضمن صيغ تستدعي الذائقة الجمالية وتوجيه أنظار القارئ نحو فتح أبواب الأمل والترقّب للقادم الأجمل، وفي الحقيقة لم يحدث أن افترضت التوقف كما طرحتِ في سؤالك، فلا أنزوي أبداً بل أحاول خلق فرص أخرى للتواصل مع الآخرين، سواء عبر الفضاء الالكتروني أو اللقاء مباشرة، المهم برأيي التفاعل مع الناس بعيداً عن الوحدة المدمّرة.