جينا سلطان
تنتظم حياة الإنسان ضمن بوتقة الخطايا السبعة؛ الكبرياء، الكذب، الحسد، الشراهة، الكسل، الشهوة، وتُحكم بها ومن خلالها. لكن الخطيئة الأولى تقود حتما إلى بقية الخطايا، لأن مقترفها يتأله داخل ظلمات نفسه، التي تتخلق في صورة صنم معبود اصطلح على تسميته بإبليس. وأْبْلَس في اللغة العربيّة يئس وتحيّر وسكت غمّاً، وهو النمط الذي يقود إليه التكبّر حينما تغرب عنه نشوة الانتصار.
في رواية "قرية الخطايا السبعة" يقارب الكاتب والمحامي البرازيلي رافاييل مونتيز مفهوم الإثم والدنس في الزمن المعاصر واستطالاته الرمزية، ضمن قرية منعزلة منغلقة على نفسها، لا تقبل الغرباء. وهذا النمط المكاني يعادل بوتقة النفس الفردية والجمعية معا، بحيث تتبلور الجريمة والعقاب ضمن مسار اللامبالاة والعنصرية والتنافسية الشرسة، وهي سمات المجتمعات المعاصرة، لتدين عصراً بأكمله، يجتاز ممتحنوه دروبهم الشاقة من دون رحمة أو تعاطف إنساني.
ولد مونتيز في عام 1990 في ريو دي جانيرو، ونجح في عامه الرابع والعشرين في نيل اهتمام النقاد بروايته أيام رائعة، والتي نشرت مترجمة تحت عنوان امرأة الحقيبة. أما روايته قرية الخطايا السبعة فينسبها إلى مذكرات تعود أحداثها إلى عام 1589، خطتها امرأة من الأقليات، وضمنتها سبع سرديات مختزلة، تقص أنباء سبع شياطين يتلبسون أبناء قرية معزولة، ويسوغون لهم اقتراف الخطايا المحرّمة. ويعزو مونتيز لنفسه دور المترجم المتماهي بمايسترو يقود سمفونية الدمار الأخلاقي. فيرصد تدهور حال السكان، بفعل الحرب الأهلية في المدينة، والذي ينعكس في غياب المؤنة والتدفئة وسقوط السكان تحت براثن البرد والجوع. ومع أن الكاتبة تنسب كل قصة إلى شيطان من أمراء الجحيم السبعة، وتجعله مسؤولا عن إثارة خطيئة مميتة في البشر، إلا أن لوسيفر يقود ملهاة الكبر والغضب ويفجر النكران والجحود في القلوب الوحشية.
ولإغراق السردية في المجهولية، وبالتالي جعلها لا منتمية، وصالحة لأي مكان أو زمان، يعترف المترجم ـ المؤلف بدهشته الكبيرة أمام كم الشر والرعب في الرواية وبرودة أسلوبها الذي يذكر بشكل غير مباشر بالعنوان الذي اختاره كولن ولسون للجزء الثاني من كتابه اللا منتمي: سقوط الحضارة. واللافت للانتباه أن تواتر القصص لا يتبع السياق التوراتي لترتيب الخطايا، ومن ثم يمكن قراءتها كيفما اتفق دون المساس بتأويلها، إذ أنها لا ترتبط فيما بينها على نحو وثيق، رغم اشتراكها ببعض الشخصيات والحقائق، وبكونها تحدث في القرية ذاتها، التي اختفت كما لو أنها الأرض انشقت وابتلعتها. ورغم تأطير القصة بشيطانها، إلا أن مونتيز يقدم روايته بعبارة هرقليطس: "إن شخصية المرء هي شيطانه الحقيقي"!
في قصة "وليمة لأناطولي"، تتضخم الشراهة في نفس فيلكا وسط تعاظم الخوف من الموت جوعاً، وتملي عليها إلتهام جيرانها، ثم أطفالها الثلاثة، فلا يجد زوجها العائد من الصيد إلا بقايا العظام البشرية. وتتخذ هذه الصورة الوحشية منتهى السخرية من الملهاة الإنسانية في هيئة المرأة الشابة المتوردة الوجنتين وهي تفتح الباب لأناطولي المحمل ببضعة فرائس، والمتلهف لرؤية امرأته وأطفاله والجزع حتى الموت خشية أن يكون للجوع قد افترسهم.
في قصة "الأخوات ڤاليا وڤيليا وڤوندا"، والتي تذكرنا بالأخوات برونتي، يتحول الحسد عند إحدى التوأمين اللتين دأبتا على قضم الأيام من خلال إدمان التسلية ومتعة تغيير الواقع، الكامنة في تأليف القصص، ولو عن طريق نظم العبارات وشحنها بالطاقة الكافية للإطاحة بثلاثية الحب. فيبرز تصوير القتل في الخيال كحل لمشكلات ڤوندا الأسيرة داخل قرية تقليدية محاطة بالجبال الجليدية، وترسم سيناريو للتخلص من خطيب أختها بدفعه تحت عجلات القطار، بحيث يفقد ساقيه، ومن توأمها، وبذلك تحظى برومانسية، تطوبها كاتبة عظيمة.
يختار مونتيز العنصرية بوصفها تتويجا للكبرياء، وتجسيدا لخطيئة لوسيفر المضيء، فيصبح زنجي ضحية حرب في المدينة، ويفقد إحدى عينيه وهو يدافع عن بناته من الاسترقاق، الذي يقود الثلاثة معا إلى أرض الدنس والنفاق. فتصبح الفتيات عبدات في قبو الحداد إيفان، ويغدو الأب عبداً لدى زوجة العقيد المشارك في تلك الحرب. ولأن زوجة العقيد تنقذ الأب من القتل بالسيف حينما نجح في اكتشاف مكان طفلتيه، يتحول سخطها لغياب زوجها إلى إذلال وانتهاك لإنسانية الزنجي، فيحمل تمرده نمطا همجيا معادلا لقسوتها ورياء إحسانها الكاذب. ومجددا يطل الخوف على مصير الطفلتين ويحول العبد إلى خاطف لطفل المرأة، ومن ثم مفترس له، فيعادل رد الفعل الوحشي عنف العنصرية، تماما كما غلب السواد رمزيا على حامل الشعلة لوسيفر حينما استكبر وأبى السجود.
يطل نمط الاسترقاق مجدداً في قصة "چيكاترينا الحلوة" التي اغتصبها جارها ميخائيل في الرابعة عشرة من عمرها وحولها طوال أربعة أعوام إلى عبدة لنزواته الجنسية المنحرفة، حتى مات والدها وسافرت إلى المدينة، ثم عادت كعاهرة محترفة لتنقل إليه الجذام. وكان ميخائيل قد اعتاد التردد على بيوت البغاء في المدينة حتى أدمن الشهوة، حين سولت له نفسه المريضة باستغلال يتم جيكاترينا لانتهاك براءتها. أما في "القصة الحقيقية لإيفان" الحداد، فتتحول خطيئة الكسل إلى محرض على استعباد طفلتي الزنجي للقيام بأعباء الحدادة مجانا. فيقتل الزنجي الذي التهم طفل العقيد الذي أسر طفلتيه وباعهما، وبعد محاولته أكل إحدى البنتين، تقتله فيلكا وتلتهمه.
أما الطمع فيستحوذ في قصة "حصالة على شكل خنزير للسيدة برانكا"، على نفس عجوز شمطاء، فتلتهم مدخراتها النحاسية والفضية من النقود، لتحرم حفيدتها لاتاشا اليتيمة من الاستفادة منها. وتبقى خطيئة الغضب التي ينسبها الكاتب إلى إبليس في قصة "رجل ذو أسماء عدة"، والذي زار جميع الشخصيات مسبقاً، ليهيج في داخلها الجشع والاستئثار بحب الذات وتفضيلها على الآخرين الذين يشكلون امتداداً خارجيا لها. ويمكن اختزال جسامة الغضب بعبارة بليغة: "لقد غضبت يا جوبتير، إذا فقد أخطأت". وكان جوبتير إلهاً!