تنازلات أعمق للحب

ثقافة 2025/03/06
...

  إيمان المحمداوي


يبدو أن العشاء في هذه الليلة أيضا متواضعًا، مثل كل ليلة. قطعة خبز، وطبق صغير من لحم الدجاج، ووعاء من الخضار المسلوقة. جلست في مكانها المعتاد، وامتدت يدها تلقائيًا نحو الزاوية التي تعرفها جيدًا في الطبق الزجاجي الشفاف، إذ يترك لها زوجها جلد تلك القطعة من الدجاجة المشوية، الجزء الذي تظن أنه نصيبها دائمًا. لكنها وجدت شيئًا مختلفًا هذه المرة. وضع أمامها قطعة لحم طرية، نظيفة، خالية من أي أثر للجلد أو العظم. لم تفكر كثيرًا. حملتها بين أصابعها وأكلتها كما هي، مضغتها ببطء، وهي تتذوق قوامها المختلف، المذاق الذي لم تعتده منذ زمن بعيد. حينما رفعت رأسها، وجدت زوجها يحدّق فيها بصمت. لم يكن في عينيه استغرابٌ صارخ، لكنه وجد في عينيها ظلّ سؤال لم يُطرح بعد. وبعد لحظة قصيرة، قال بهدوء:

- توقعت أنّك تحبين الجلد.

توقفت يدها عن الحركة. بقيت تحدّق في الطبق، كما لو أنها تبحث عن إجابة بين بقايا الطعام. هل كانت تحب الجلد حقًا؟ أم أنها فقط اعتادت أنْ يكون هو المتاح، فعلّمته أنها تريده؟ شعرت بشيء غريب يتسلل إلى صدرها، كأن جدارًا خفيًا بدأ يتصدع بصمت. مرّت لحظة أخرى قبل أنْ تنطق، لكنها لم تجد الكلمات المناسبة. كل ما استطاعت فعله هو النظر إلى الطبق، وإلى يدها الفارغة، ثم إلى زوجها الذي عاد ليأكل بصمت، من دون أن يطلب تفسيرًا، لكنها شعرت أن السؤال سيبقى معلقًا في الهواء، بلا إجابة. في تلك الليلة، لم تستطع النوم. بقيت مستلقية على ظهرها، تحدّق في السقف كأنها تبحث فيه عن إجابة. لماذا أربكها سؤال بسيط كهذا؟ لماذا شعرت للحظة أن كل شيء مألوف أصبح غريبًا؟ كانت تلك اللحظة المفتاح الذي فتح بابًا إلى وعي لم تطرقه من قبل. كيف تتشكل الرغبات؟ كيف نعرف حقًا أننا نحب شيئًا ما، وليس لأننا فقط تعلمنا أن نحبه؟

عادت بذاكرتها إلى طفولتها. كانت تجلس على الطاولة، ساقاها الصغيرتان تتأرجحان تحت الكرسي. أمامها برتقالة مشرّحة بعناية، لبّها اللامع ينتظرها، بينما على الطرف الآخر من الطاولة، كانت أمها تلتقط القشور وتضعها في فمها بابتسامة هادئة.

- لماذا تأكلين القشور يا أمي؟

- لأنني أحبها.

لم تناقشها. لم تفكر بالأمر. كان ذلك منطقيًا في عالمها الصغير: البرتقال لنا، القشور لها.

ثم تذكرت مشهدًا آخر، كانت أكبر قليلًا. جلسوا حول المائدة، اللحم في منتصف الطبق، والعظام مكدسة على الجانب. كعادتها، كانت أمها تلتقط العظام، تقرض بقايا اللحم الملتصق عليها بأسنان هادئة. وحين سألتها:

- لماذا لا تأكلين اللحم يا أمي؟

جاءها الجواب نفسه، بنفس النبرة الواثقة:

- لأنني أحب العظام.

مرة أخرى، لم تسأل أكثر. كانت طفلة، ولم يخطر لها أن الحب قد يكون شيئًا آخر غير ما قيل لها. لكن الآن، بعد كل هذه السنوات، بدأت تدرك. لم تكن أمها تحب العظام، ولم تكن القشور تستهويها. بل كانت تمنحهم الأفضل، تترك لهم اللب، تأخذ ما تبقى، وترتدي ذلك الحب كأنه حقيقة. كانت التنازلات الصغيرة التي لم يفكروا بها يومًا، هي شكلها الأعمق للحب. شعرت بقلبها ينقبض. كم مرة ظنّت أنها اختارت، بينما كانت في الحقيقة تسير على خُطا غير مرئية، رسمتها يد أخرى بمحبة صامتة؟ ومع الوقت، لم يعد الأمر مجرد عادة، بل أصبح هوية. هوية المانح، الذي يجد متعته في التخلي. لكنها أدركت الآن أن هذه المتعة لم تكن دائمًا خالصة. بل كانت مزيجًا من الحب، والتعود، والخضوع لقواعد غير مكتوبة. كم من القرارات التي نظنها خياراتنا، هي في الواقع مجرد امتداد لما غُرس فينا؟ كم مرة اخترنا ما نظن أننا نحبه، لكن في الحقيقة هو ما تعودنا عليه، وما اعتقدنا أنه ملكنا؛ لأنه لم يكن أمامنا شيء آخر؟

التفتت إلى زوجها، كان نائمًا بهدوء بجانبها. نظرت إلى يده المسترخية، تلك اليد التي مدت لها قطعة اللحم دون تفكير، دون أن يعرف أنه بذلك دفع حجراً صغيراً في بركة راكدة داخلها .أدركت أنها لم تعد كما كانت. ولم تكن متأكدة بعد إن كان بإمكانها أن تعود في الأيام التالية، بدا كل شيء مختلفًا. كأن عينيها، التي اعتادت على الأشياء كما هي، قد اكتسبت طبقة جديدة من الفهم. لم يعد العالم حولها مجرد مشاهد عابرة، بل تفاصيل صغيرة تنطق بحقيقة لم تلحظها من قبل.

في السوق، رأت سيدة مسنّة تجلس على طرف الرصيف، تخرج من كيسها رغيفًا يابسًا. بقوة ألف عادة، كسرته بين أصابعها، ثم مدّت اليد نفسها إلى حفيدها الصغير وأعطته الجزء الطري، دون أن تتردد. راقبته وهو يأكله بفرح، بينما مضغت هي الجزء القاسي بأسنان أنهكها العمر. وفي المقهى، لاحظت عاملًا يملأ كوبًا بلاستيكيًا مشروخًا، يتفحصه لحظة كأنما يقيّم إن كان سينجو لرشفة أخرى، قبل أن يقدّم زميله كوبًا جديدًا لم يُستخدم بعد. وفي أحد الشوارع الباردة، عبرت أمام أم تضحك مع طفلها، تحكم إغلاق معطفها الممزق، بينما هو يقفز فرحًا بثوبه الجديد. لم تشتكِ البرد، لم تلتفت حتى لردائها الرقيق، كأنها لم تشعر به.

الآن فقط، رأت المعادلة بوضوح: لم يكن العالم عادلًا، لكنه كان متوازنًا بطريقة ما. ليس التوازن الذي تحدّثت عنه الكتب، حين يأخذ كل فرد نصيبه بالتساوي، بل توازن من نوع آخر، توازن قائم على تضحية غير مرئية، على حب لا يطالب باعتراف، على أيدٍ تمتد لتعطي دون أن تنتظر الأخذ. كم مرة حدث هذا أمامها، ولم ترَه؟ كم مرة كانت جزءًا من هذه المنظومة دون أن تفكر بها؟ شعرت بقلبها يضيق، كأنها على وشك البكاء. ليس حزنًا، بل شيئًا أعمق، شيئًا يشبه الحنين إلى حقيقة ضاعت وسط العادات. لكنها عرفت الآن. وعندما يعرف المرء، لا يعود كما كان.

في تلك الليلة، جلست أمام العشاء، يداها ساكنتان، وعقلها يضج بأسئلة لم تجد لها إجابة. كان أمامها طبق اللحم الطري، تمامًا كما كان أمام زوجها. لم يقل شيئًا هذه المرة، لم يدفع نحوها الجلد، ولم تفعله هي أيضًا. مرّت لحظة صامتة، طويلة، قبل أن تمد يدها. أمسكت بقطعة اللحم. قلبتها بين أصابعها، تأملتها كما لو تراها لأول مرة. كان بإمكانها أن تأكلها. كان بإمكانها أن تترك الجلد، أن تكسر الدائرة، أن تختار لأول مرة دون أن يكون الاختيار مفروضًا عليها. لكن شيئًا ما في داخلها قاوم ببطء، وضعت قطعة اللحم في طبق زوجها، ثم أخذت الجلد، ومضغته دون تردد. هذه المرة، لم يكن هناك عذر، لم يكن هناك ادعاء بأنها تفضّله، لم يكن هناك وهم تحبه أنشأته طفولتها. بل كان هناك إدراك مرعب: حتى عندما امتلكت الخيار، لم تستطع أن تختار لنفسها. نامت ليلتها بهدوء، لكن في عمقها، كان هناك شيء ينكسر، شيء لم تكن متأكدة إن كان يمكن إصلاحه. وفي الصباح، عندما نظرت في المرآة، لم تتعرف على المرأة التي تحدق فيها. لم تكن تعرف إن كانت خاسرة، أم أنها، أخيرًا، فهمت.