الانثروبولوجيا السياسيَّة وعلم السياسة.. الاتفاق والاختلاف

آراء 2025/03/09
...

 أ.د. عبد الواحد مشعل

لا شك أن الانثروبولوجيا السياسية فرع حديث من فروع الانثروبولوجيا، درست الإشكال السياسية في المتجمعات المجزأة (النظم القبلية)، منطلقة صوب اكتشاف تنظيم التفكير والرموز، التي تتداولها تلك النظم في علاقاتها الاجتماعية ضمن الحدود غير الرسمية، كفضاء طبيعي لها مستندة على الأعراف التي انتظمت خلال التاريخ، واعتبرت منطقة ارتكاز لتنظيم تلك العلاقات.

ويذهب العالم الانثروبولوجي جورج بالاندريه إلى تعريف العلاقات السياسية على وفق منطلقات الانثروبولوجيا السياسية، على أنها تقوم على أساس التميز بين اتجاهها الداخلي والخارجي، مقسما تلك العلاقات على ثلاثة اقسام، هي الممثلون والدور والمحتوى، ولعل ذلك يقودنا إلى فهم العلاقات السياسية في التنظيمات العشائرية على أنها تستند إلى إرث متعارف عليه لدى أبناء القبائل، على أنه نوع من التجريد المنتقل عبر الأجيال عندما كانت القبلية تمثل بنية سياسية قبل انتقالها إلى بنية اجتماعية في ظل الدولة الحديثة القائمة على القانون، حيث يكون لعلم السياسة مجاله الواسع.  إن قراءة موضوعية لواقع البنى الاجتماعية العراقية التقليدية، تكشف لنا أن هناك علاقة واضحة بين النسق السياسي والعلاقات القرابية تتجلى بشكل واضح في الولاء للسياسي أو الفاعل السياسي الذي ينحدر من نسب المجموعة القرابية أو يرتبط بعلاقات وثيقة مع شيخ العشيرة، الا أن ذلك قاعدة مطلقة، فهناك من أبناء العشيرة لهم آراؤهم واختياراتهم القائمة على العقلانية اكير من الانصياع لراي شيخهم أو بسبب صفة القرابة مع ذلك الفاعل السياسي. ويظهر ذلك بشكل واضح في الانتخابات والمواقف المختلفة، وفي هذا يكمن قسم كبير من اشكالية النسق السياسي في العراق. لقد شكل الولاء العشائري في العمل السياسي فجوة كبيرة بين الطموح، لبناء دولة ديمقراطية وبين استكمال حلقات الإدارة بشكلها المطلوب على وفق منظور علم لسياسة لبناء مجتمع يقوم على أساس البرنامج التنموي للنهوض بالمجتمع، ولكي لا تختلط المفاهيم بين النظرية السياسية في نظام الدولة وطبيعة العلاقات السياسية في النظم الأهلية، فالنظرية السياسية تشكل عملا تنظيميا قائما على التنظير الأيديولوجي أو على أساس رؤية سياسية وقانونية مساحتها الدولة، وهي فيها الكثير من التجريد النظري، الذي يسعى القائمون على الدول إلى اتباعه في ادارتها وهو ما يذهب اليه علم السياسة. اما الادارة السياسية في نطاق الانثروبولوجيا السياسية يتمثل بالسلطة داخل الاسرة والعشيرة والقبلية على وفق منظومة ثقافية متوارثة.  يكشف علم السياسة عن التداخل بين النظم السياسية والنظريات، التي يقدمها في إدارة الدولة مع اختلاف ذلك من دولة إلى أخرى، تحت فهم يتفق وطبيعة العلاقات السياسية في إطارها الإداري والثقافي، ما يجعل فك الارتباط بين هذين النموذجين المتداخلين (الإداري والثقافي)، يتطلب وعيا اجتماعيا على المستويات كافة، حتى تتبلور قناعة مجتمعية على قيام تنمية بشرية مستندة على المعرفة العلمية تقود إلى تحول صناعي، الذي بدوره يقود إلى تغير بنيوي ثقافي يستبدل البنى التقليدية ببنى حديثة، كي يكون المجتمع مؤهلا لبناء دولة مدنية، ومعترفة بالتعدد، ومنها ممارسة النظم الأهلية حياتها الاجتماعية، بصفتها بنية اجتماعية تقوم بأدوارها المختلفة مثل واجباتها في الافراح والاتراح والعمل على التماسك الاجتماعي، كما يمكن أن يظهر في دورها في التكافل الاجتماعي والحفاظ على ارثها الثقافي في بيئتها المحلية. إن فهم أهمية الانثروبولوجيا السياسية ينبغي أن يقوم على أساس أن هناك فرقا بينيا بين السلطة في المجتمعات التقليدية العشائرية والسلطة في المجتمعات الحديثة، في الأولى يكون علما لسياسة بنظرياته قادرا على إدارة المجتمع على وفق القوانين، التي تحدد العلاقات القائمة على أساس العقد الاجتماعي، أما على نطاق الحدود الداخلية للعلاقات العشائرية في بيئتها المحلية، وليس في بيئة حضرية، فيمكن أن نجد في الانثروبولوجيا السياسية مكانا ملائما في بيئتها الثقافية المحلية، واي نشاط اخر تحت عباءة العشيرة في المجتمع الحضري سيشوبه أصول الأعراف العشائرية، نتيجة جهل أو عدم معرفة سكان المدينة الأصليين معرفة تامة بها، ما ستنتج عنه تداعيات على المنظومة القيمية الحضرية منها على سبيل المثال فتح باب للابتزاز وفرض القوة من قبل اشخاص لا صلة لهم بأصول القيم العشائرية الأصيلة، إنما يمثلونها في المواقف مختلفة متخذين منها ذريعة للسلوك المنافي لأصل العرف العشائري الاصيل. اما النموذج الثاني فيقوم على أساس القانون الذي لا يفرق بين فرد واخر، انما ينطلق من قوانين شرعت بالأصل على وفق مصادر مرجعيتها ثقافة المجتمع في إطار الدولة، وتأخذ صفة العدالة في التطبيق، لا سيما ما يطلق بالحق العام. إن بناء دولة عصرية يتطلب أولا وعيا اجتماعيا وتنمية متكاملة وتحقيق مساواة بين الذكور والاناث في العمل، والحقوق الثقافية وتقدير حقوق الانسان وبناء منظومة وطنية بقدرات العراقيين جميعا، لأن الإطار العام لبناء الدولة هو المواطنة لا غيرها.