البقاء للأغنى

آراء 2025/03/09
...

 طالب سعدون


ليست الأمراض وحدها تفتك بالبشر، بل هناك ما هو أشد فتكا منها وهو الفقر ورديفه الجوع، وسببه اللا مساواة في تعبير أحد التقارير العالمية. العالم اليوم كما هو في السابق منقسم إلى اغنياء وفقراء وتلك مسألة طبيعية، ومسألة أزلية أيضا أن يصل (الشبع) إلى حد التخمة والبغي والطغيان عند البعض، وهو ما لا يرضاه الخالق والمخلوق. وقصة قارون في القرآن الكريم فيها من العبر والدروس الكثير. قانون إلهي للبشر.. من كبرت ثروته واتسعت قوته الاقتصادية عليه أن يراجعها باستمرار، وينبغي أن يعرف أن فيها (حقا معلوما للسائل والمحروم) أي الفقراء.. لكن أن يتحول الثراء الفاحش إلى بغي وطغيان واستعمار جديد واضطهاد للبشر، وعنف اقتصادي بسبب امتلاك قلة للثروة على حساب الكثرة. ليس على مستوى البلاد الواحدة، بل العالم. ذلك هو التفاوت المرفوض واللا مساواة الممقوتة. ان تملك قلة وتعاني اكثرية من فيروس اللامساواة هو استعمار جديد بمسمى اقتصادي. أو بمصطلح آخر (استعمار الأغنياء) (الشمال ) للفقراء (الجنوب) وهو في زيادة سنة بعد اخرى. اذا استمر هذا التفاوت الفاحش فهو يأخذ من حصة الفقراء ويسير بالعالم نحو كارثة إنسانية. هذه اللا مساواة تسهم في زيادة نسبة الوفيات بين الفقراء أو بعبارة أحد المتخصصين (الأدنى مرتبة على السلم الاجتماعي الاقتصادي قياسا على مستويات تعليمهم، أو المهن التي يزاولونها، أو دخولهم مقارنة بنظرائهم الأكثر ثراء) على حد تعبير يوهان ب. ماكنباش، أستاذ الصحة العامة ورئيس قسم الصحة العامة في مركز إيراسموس الطبي التابع لجامعة إيراسموس في روتردام. الاغنياء يزدادون غنى والفقراء يتراجعون. حقيقة أشرها تقرير مؤسسة أوكسفام بعنوان (ناهبون لا صانعون) في تقريرها لعام 2025 كما هي تقاريرها السابقة، التي تنشرها مطلع كل عام مع اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي، المعروف باسم منتدى دافوس، الذي يستضيف نخبة العولمة أو نخبة الليبرالية الجديدة الاقتصادية والسياسية والمالية حول العالم لعدة أيام في منتجع دافوس السويسرى منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. تقارير مهمة تدق فيها المؤسسة المذكورة جرس انذار وتنبيه للنخبة الثرية (المليارديرات) والاغنياء عموما والمعنيين في الدول. وهنا تكمن أهمية الحضور إلى هذا المنتدى، للاستفادة مما يطرح فيه ومناقشة ظواهر وحالات جديدة وليس الاستماع والمشاركة والراحة والاستجمام والتمتع بطبيعة دافوس السياحية فقط.  يشير التقرير إلى ان عدد المليارديرات في زيادة سنة بعد أخرى، فقد وصل عددهم في عام 2024 إلى 2769 بزيادة قدرها 204، مقارنة بالعام السابق وبزيادة مليوني دولار يوميا لثروة الملياردير الواحد، كما أصبح أغنى عشرة مليارديرات أكثر ثراءً بمقدار 100 مليون دولار يوميا.. زيادة في المليارديرات تقابلها زيادة في الفقراء وتصاعد نسبة الوفيات (وفاة شخص واحد في الأقل كل أربع ثوان).. كارثة تعيشها الانسانية بسبب هذا التفاوت الصارخ. اذا كان هؤلاء الاثرياء في زيادة في العدد والثروة (حسب التقرير)، إلا أن الطامة الكبرى التي اشار اليها التقرير أيضا أن الاشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر ثابت، في حين ارتفع عدد الاشخاص الذين يعانون من الجوع. وتلك الارقام تشير إلى حقيقة أخرى، وهي أن هؤلاء المليارديرات حتى لو فقدوا 99 بالمئة من ثرواتهم، فهم سيبقون أصحاب المليارديرات لأن ثرواتهم في نمو والفقراء في تراجع. هذه التقارير للمؤسسة المذكورة تؤشر لحقيقة اخرى اكدتها في تقريرها لعام 2023 بعنوان (البقاء للأغنى) مستوحى من مصطلح البقاء للأصلح (من كتابات دارون وغيره). حيث يستحوذ واحد بالمئة من البشر على 26 تريليون دولار (63 بالمئة) من جميع الثروات، بينما ذهب 16 تريليون دولار (37 بالمائة) فقط إلى باقي سكان العالم مجموعين.. أي أن هذا الواحد بالمئة يستحوذ على ثلثي ثروات البشر حسب التقرير!.

العالم يعيش ما اسماه التقرير فيروس اللا مساواة ومن نتائجه الكارثية زيادة نسبة الفقر والفقراء والجوع والموت بسببه. العالم يعيش ازمة حقيقية تضاف لأزماته الكثيرة. أزمة المناخ والتصحر والجفاف والفيضانات والمياه والأعاصير والطاقة وتكاليف الحياة المادية وارتفاع الأسعار واحتكار شركات الغذاء والدواء العالمية، وسيطرتها على السوق وغيرها الكثير من الشركات، التي تحتكر سلعا وحاجات اساسية تتوزع بين فروع الحياة الاساسية، وبالتالي تزيد الفقر فقرا والغني غنى. الفقر حالة خطيرة في العالم. ومن آثاره السياسية إلى جانب الاقتصادية والاجتماعية المعروفة أنه يدفع الانسان إلى أن يقدم رغيف الخبز على الحرية والحقوق الأساسية الأخرى.  الفقر يجعل كل الشعارات عن الديمقراطية وحق الحياة والقرارات والمواثيق العالمية عن حقوق الإنسان فارغة من مضمونها، وليست ذات معنى والى إعادة النظر بضوء هذه اللا مساواة الفاحشة.  وكان الله في عون الفقراء، وكاد الفقر أن يكون كفرا.