تماضر كريم
لا يسأم الناس من هذا السؤال: " لماذا لم تتزوج بعد"، كانت إجابتي تختلف في كلّ مرة. لم أتعمد أن أكون موارباً، لكني كنتُ أبحث دائما عن إجابات أكثر إقناعاً.
حاولتُ أن أستخف بفضول الناس، لكنهم في الحقيقة كانوا حاضرين بطريقةٍ خانقة، شيء لم أستطع الفكاك منه لفترةٍ طويلة.
لم أخبر أحداً أني عزفتُ عن الزواج، لأني لا أتخيل زوجةً لي غيرها، جوليا روبرتس النجمة العالمية ذات الابتسامة الساحرة. بدأ الأمر عندما كنت طالباً في الاعدادية، حيث أفلامها في التسعينات تأخذ القلب، شعرها البني المتموج الكثيف، لون عينيها اللامع الذي لا يمكن تحديده، شفتاها اللتان تفصحان عن أسنان كبيرة، وجسدها الممشوق كأنه شجرة سامقة. لكن الأهم من هذا كلّه أنها كانت تبدو طفلةً بريئة.
منذ ذلك الوقت قررتُ أنها ستكون زوجتي يوماً، جازفتُ مرةً بإخبار أحد اصدقائي، فما كان منه إلّا أن انقلب على ظهره من الضحك، يومها صممتُ أن يرافقني هذا السر حتى يصبح الحلم حقيقة.
وحتى يجيء ذلك الوقت، كنت أُسلّي نفسي بمشاهدة أفلامها مراراً، أحفظ سكناتها وحركاتها في جميع الأدوار التي لعبتها، حوارها الذي كانت تسبغ عليه من إحساسها، كلمتها الملهمة عندما أخذت الأوسكار، تسريحة شعرها في الحفل، وأسلوبها في البرامج التي يضيفونها بها. لم يتطرق الملل يوماً إلى قلبي، ولم تأفل شعلة حبّها في روحي، ثمة اسم واحد حُفر هناك، بأقصى أماكن الوجدان: جوليا.
لم يكن الأمرُ مستحيلاً بنظري، ثمة احتمال لبلوغ أيّ حلم مهما بدا شائكاً، القصص من حولي زاخرة بالأعاجيب. قصص الحب التي كنت أتابع الغريب منها، والطريف والمدهش الذي لا يُصدق، مفارقات القدر في تلك القصص أمدتني بالأمل، ودفعتني أخيراً إلى التفكير جدياً بالوصول اليها، وقد حلّ خريف العمر بلا رحمة، وما عاد فضول الناس يُحتَمل.
"ماذا لو أرسلتُ لها رسالةً على حسابها في تطبيق الانستغرام"؟ ينبغي إدراك أن المسافات لم تعد مشكلةً أساسية، صار العالمُ مكاناً صغيراً متصلاً، وما أن تقرأ رسائلي حتى ترد، النجوم لا يتجاهلون معجبيهم، إن لم تفعل، سأواصل كتابة الرسائل، لن أتوقف أبداً، ربما سأحصل على لقاءٍ، في أقل تقدير، بمكانٍ تختاره هي، فوراً بدت مدينة "دبي" مناسبة لكلينا.
الخطة جاهزة تماماً، والكلمات تتزاحم، مفعمة بشوق عمرٍ كامل، والرسائل بدت تطير إليها، في الصباح أبادرُ إلى إرسال أجمل باقات الورد الأحمر وملصقات القلوب الممهورة بكلمات الحب العاصف، أحيانا أشرح لها بروية كيف ستكون حياتنا معاً، أطمئنها أني ادخرتُ مبلغاً جيداً يضمن لها مستوىً لائقا، مشدداً على أني لن آخذ فلساً من مالها الشخصي الذي تجنيه من الأفلام، وقبل أن أنام أتمنى لها ليلةً سعيدة مع قُبلة وزهرة ونقاط متناثرة مفتوحة على تأويلات أحبّ أن تخطر على بالها.
لم يكن الفراغ في خانة الرسائل يردعني عن المضي قدماً، وإن كان مُضياً مغلفاً بالمرارة والخيبة، تضاعفه المرارة التي تبثّها أمي وهي تقترح بين فترة وأخرى، أن تخطب لي ابنة اختها "سحر"، كانت سحر ذات وجهٍ أسمر مدور، وشعر أسود طويل وملامح ضحوكة، ممتلئة تميلُ إلى القصر، كنت اعرف أنها فتاة لطيفة وحنون، لكنها ليست جوليا.
لم تكن ثمة جوليا بالجوار أبداً، إنها واحدة فقط، لا تردُّ على الرسائل. تمتمتُ بيأس وأنا أتفقد صفحة الرسائل، وقد غيمت عيناي بدمعة نعاس، فإذا بي أقرأ تلك الجملة بحروفها الانكليزية المنمنمة: أهلا، كيف الحال؟
ـ أهلا حبيبتي.
كتبتُ بأصابع مرتعشة، وقلب مضطرب.
ـ شكرا لاهتمامك وكلماتك الحلوة، لا مانع لديّ أن نلتقي في دبي، الأسبوع القادم لديّ اعلان هناك وسأكون موجودة، هل أنت متفرغ؟
ـ نعم.. نعم بكل تأكيد.
قبل يومين من الموعد سافرتُ إلى هناك بتذكرةٍ سياحية، أذرع الشوارع مفكراً بتلك اللحظة، كيف تكون.
أقرأ رسائلها القصيرة، أذهب للمطعم الذي اختارته، أتأمل فيما مضى وما سوف يأتي، أتخيل ضحكتها الحلوة، وأتذكر ضحكة صديقي الساخرة، سأُريه صورتنا معاً، وأتمعن حينها في ملامح وجهه. أياً كان قرارها سأحترمه، ربما ستطلب مني أن أتوقف عن إرسال الرسائل، أو تدهشني بفكرةٍ أخرى.
حرصتُ أن أصل قبلها، لا يجدر بالملكات أن ينتظرن، ولم تمر سوى دقائق حتى أطلت، يا إلهي! إنها أجمل من الصور بكثير، بدت أطول بمعطفها الأسود وحذائها الرياضي، فوراً مدت يدها وابتسامة ودود تملأ وجهها، وقد جمعت شعرها إلى الخلف. أسعفتني لغتي الانكليزية المتوسطة في الحديث، عن أفلامها، المرأة الجميلة، العروس الهاربة، ايرين بروكوفيتش الذي قطفتْ به الأوسكار، فيما كانت هي تهزُّ رأسها وتضحك، تضحك من القلب وأضحك، لدرجة أننا لم نأت على ذكر الرسائل، وفي لحظة ما نظرت في ساعتها، ونهضتْ فجأة، ثم هدأ كل شيء دفعةً واحدة، وهي تنحني لتصبح قريبةً من وجهي، وضعتْ فمها على فمي، هي جوليا روبرتس، شفتاها النديتان، وإحساسهما الطري مثل فاكهة صيفية، كنتُ مبهوتاً وأنا أراها تحمل حقيبتها لترحل سريعاً بخطواتها الخفيفة. كنت ألعقُ شفتيّ بينما كان جسدي يهتز، يهتز ويتحرك بطريقة لا أستطيع إيقافه بها، لكن ما بالُ جسدي كأن يداً تهزّهُ:
ـ هيا ! ما بك؟ استيقظ، منبهك يرن دون جدوى! ألن تذهب للعمل اليوم؟!