بين الفعل الفردي والتفاعل الثقافي

ثقافة 2025/03/10
...

  أمجد نجم الزيدي

ليست القراءة مجرد مهارة يكتسبها الإنسان، بل هي فعل ثقافي يعكس تطور الفكر الإنساني عبر العصور، يقدم ستيفن روجر فيشر في كتابه "تاريخ القراءة"، سرداً وافياً لمسيرة القراءة، كاشفاً عن تحولها من ممارسة صوتية تعتمد على التلاوة إلى فعل ذهني مجرد، يحمل في طياته تأثيرات ثقافية واجتماعية عميقة، حيث يسلط الكتاب الضوء على البدايات الأولى للقراءة في الحضارات القديمة.

 حيث كانت النقوش على الحجر والطين وسيلة لحفظ المعلومات ونقلها شفهياً، قبل أن تتطور إلى شكلها الأكثر تعقيداً في المخطوطات والكتب المطبوعة، ثم الرقمية في عصرنا الحديث.

يؤكد فيشر أن القراءة ليست مجرد أداة لنقل المعرفة، بل هي عملية تتجاوز حدود الإدراك الحسي لتصبح جزءاً من تكوين الهوية الثقافية والمجتمعية، فمن خلال استعراضه لأشكال القراءة المختلفة عبر الزمن، يكشف عن كيفية تفاعل الإنسان مع النصوص، بدءاً من النصوص المقدسة في المعابد، وصولاً إلى الأدب والفلسفة، كما يناقش العلاقة بين القراءة والسلطة، حيث كانت القدرة على فك رموز النصوص حكراً على طبقات معينة في المجتمع، مما جعلها أداة للهيمنة أو

التحرر.

تفتح دراسة تاريخ القراءة المجال لفهم أعمق للكيفية التي نشأت بها المجتمعات وتطورت، وكيف ساهمت هذه الممارسة في تشكيل الفكر الإنساني وإعادة إنتاج المعرفة، فمع كل تحول تقني، من البرديات إلى الورق، ومن المطبعة إلى الشاشات الرقمية، تغيرت طبيعة القراءة وتأثيرها، لكنها ظلت دائماً فعلاً إنسانياً جوهرياً، يعكس رغبة الإنسان الدائمة في الفهم والاستكشاف والتواصل مع العوالم 

المختلفة.

إذا كانت دراسة فيشر لتاريخ القراءة، قد أظهرت كيف أن هذه الممارسة تحولت عبر الزمن إلى فعل ثقافي واجتماعي يتجاوز حدود الإدراك الحسي، فإن بيير بايارد في كتابه "كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها" يقدم فكرة مثيرة للجدل حول القراءة والمعرفة، حيث يرى أن فهم الكتب والقدرة على مناقشتها لا يتطلبان قراءتها الفعلية بالضرورة، وهذا الطرح، رغم ما يبدو عليه من استفزاز فكري، يحمل في طياته بعداً نقدياً يعيد النظر في الطريقة التي يتم بها استيعاب الثقافة والتعامل مع النصوص، حيث يذهب المؤلف إلى أن القراءة ليست مجرد فعل فردي لعزل النص عن سياقه، بل هي جزء من شبكة من العلاقات والتأويلات التي تتجاوز النص نفسه، مستعيناً بأمثلة من الأدب والفلسفة مثل مونتين، أمبرتو إيكو، وغراهام غرين، ليؤكد أن المعرفة حول كتاب ما يمكن بناؤها من خلال التفاعل الثقافي دون الحاجة

إلى قراءته بشكل مباشر.

يقدم الكتاب تصوراً لما يسميه "المكتبة الجماعية collective library"، حيث لا تكتسب الكتب قيمتها فقط من محتواها، بل من موقعها داخل شبكة أوسع من النصوص والخطابات، فهو يشير إلى (أن معظم ما يقال حول أي كتاب لا يتعلق بالكتاب نفسه، رغم ما قد يبدو عليه الأمر، بل ترتبط بمجموعة الكتب الأوسع التي تعتمد عليها ثقافتنا آنذاك، وهذه المجموعة، التي سأشير إليها من الآن فصاعداً باسم "المكتبة الجماعية")، بناءً على ذلك، يرى بايارد أن القدرة على وضع كتاب في سياقه الثقافي والتاريخي قد تكون أكثر أهمية من قراءته بحد ذاته، لأن النصوص ليست كيانات معزولة، بل هي جزء من منظومة معرفية تتشكل عبر الزمن من خلال القراءات والتفسيرات المختلفة، هذا المنظور يعكس رؤية ما بعد حداثية للعلاقة بين القارئ والنص، حيث يتم التشكيك في مركزية القراءة المباشرة لصالح التفاعل النقدي مع الأفكار المنتشرة حول

الكتاب.

ورغم أن الكتاب يقدم قراءة ذكية ومبتكرة لمفهوم التفاعل مع المعرفة، إلا أن طرحه قد يؤدي إلى التبسيط المفرط لفعل القراءة وتحويله إلى مجرد عملية استهلاك ثقافي سطحي، خصوصاً إذا أُسيء فهمه، إذا تم التعامل مع الفكرة بشكل غير نقدي، فقد تتحول إلى تبرير للابتعاد عن القراءة الفعلية والاكتفاء بانطباعات مجتزأة، مما يقوض أحد أهم أبعاد القراءة الحقيقية، وهو القدرة على التحليل والاستيعاب الذاتي للنصوص، ربما تكون المعرفة المبنية على السياق الثقافي نافعة في بعض الحالات، لكنها لا تغني عن التفاعل المباشر مع النص، إذ أن هناك مستويات عميقة ومركبة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال القراءة المتأنية والانخراط المباشر مع الأفكار المطروحة في الكتاب 

نفسه.

 قد يكون عنوان كتاب بايارد مضللاً، بعض الشيء، ويؤدي ربما إلى سوء فهم لمحتواه، إذ ربما يُنظر إليه على أنه مجرد دعوة للخداع أو التظاهر بالمعرفة دون أساس حقيقي؛ لكن عند التعمق في ما يطرحه، يتضح أنه لا يدعو إلى تزييف فعل القراءة بقدر ما يسعى إلى تسليط الضوء على آليات إنتاج المعرفة وتداولها في المجتمع، وإلى كشف التوتر القائم بين القراءة بوصفها نشاطاً فردياً، وكونها ظاهرة ثقافية تخضع لقوانين التفاعل الاجتماعي، إذ يسلط الضوء على الفجوة بين القراءة بوصفها ممارسة شخصية للتعلم وبين القراءة كأداء اجتماعي يتحدد وفق معايير ثقافية، مما يجعله أكثر من مجرد كتاب ساخر أو دليل للتحايل الثقافي، بل عملاً نقدياً يعيد النظر في طبيعة المعرفة والهوية

الثقافية.

تكمن القيمة الأساسية لهذا الكتاب في قدرته على زعزعة بعض المسلّمات حول فعل القراءة وإبراز الجانب غير المرئي من علاقتنا بالكتب، فهو لا ينكر أهمية القراءة، لكنه يشير إلى أن المعرفة ليست حكراً على من يقرؤون الكتب حرفياً، بل هي تجربة فاعلة تتشكل من خلال التفاعل مع النصوص بطرق مختلفة، ومع ذلك، فإن هذا الطرح يظل محفوفاً بالمخاطر، لأنه قد يمنح شرعية لمن يختارون البقاء على هامش المعرفة بدلاً من الانخراط الحقيقي فيها، ليست القراءة دائماً شرطاً للفهم، لكن هناك فرقاً بين التفاعل النقدي مع كتاب لم يُقرأ وبين الاكتفاء بمظاهر الثقافة 

السطحية.

يظل هذا الكتاب عملاً فكرياً يستحق الاهتمام، لأنه يطرح أسئلة جوهرية حول ماهية المعرفة وحدود القراءة، ولكنه في الوقت ذاته يترك المجال مفتوحاً للتفسيرات التي قد تفرغه من مضمونه النقدي، هو ليس دفاعاً عن الجهل، بل محاولة لاستكشاف العلاقة بين القراءة والهوية الثقافية، وبين المعرفة الفردية والمخيال الجمعي، إنه دعوة للتفكير في الطرق التي نستهلك بها الثقافة، لكنه في الوقت نفسه يحذرنا من مخاطر تحويل القراءة إلى مجرد ممارسة شكلية منفصلة عن جوهرها النقدي والتأملي.