عدنان حسين أحمد
يندرج فيلم "في دائرة الأمن" للمخرج هادي ماهود ضمن تيار "سينما المؤلف"، فقد قام هادي بتصوير الفيلم وكتابة السيناريو والمونتاج والإخراج معا ليعبّر عن رؤيته الإخراجية الخالصة التي تهدف إلى تنوير المتلقي، وتحريضه، ودفعه إلى الاحتجاج كما يحصل في غالبية أفلامه. يعتمد المخرج في هذا الفيلم على تقنية الحوارات العفوية المباشرة حيث انتقى أكثر من عشر شخصيات تسكن كلها في دائرة الأمن ثم أضاف إليها شخصية المحافظ الذي أدلى بدلوه هو الآخر معبرًا عن وجهة نظر الحكومة المحلية.
ما يميز هذا الفيلم هو شخصية السجين "السياسي" الذي يتحدث على مدار الفيلم باللغة الإنكليزية، وشخصية الصبي الأصمّ الأبكم الذي يعبّر عن أفكاره ومشاعره بالرسم على الجدران. كما أن هناك شخصية الرجل الذي ذهب إلى "رفحاء" ومكث في السعودية حتى عام 1993 ثم قفل عائدًا إلى السماوة ليقترن بفتاة أحبّها وأنجب منها أطفالًا لم يجدوا سكنًا يأويهم سوى دائرة أمن المثنى. وثمة شخصيات أُخر سنأتي عليها ضمن سياق الفيلم وتطوّر الأحداث التي سيختمها المحافظ محمد علي الحسّاني بطريقة توفيقية حتى لا يقسو على الأسر المشرّدة ولا يطعن بحكومته المحلية المتربصة بحجة البناء وإعادة الإعمار. تروي كل شخصية على انفراد قصتها. فشاكر منشد شخص عصامي علّم نفسه بنفسه اللغةَ الإنكليزية وعندما دخلت القوات الأميركية للسماوة عمل مترجمًا لها على مرأى من عيون النظام السابق، وما إن استعاد النظامُ السيطرة على المدينة حتى تمّ اعتقاله في دائرة الأمن حيث تعرّض للتعذيب المُفرط، الأمر الذي أثّر في وضعه النفسي، فظل عازبًا يعيش في بيت أخته. يتطرق شاكر إلى وسائل التعذيب المتعددة التي تعرّض لها كالضرب بالأيدي والسياط والصعق الكهربائي، بينما يعترف بأنه إنسان فقير، ومدرِّس مُحترم يُحاضر في إعدادية الصناعة بالمثنى ولم يؤذِ أحدًا في حياته. وأشار إلى غرفة صغيرة جدًا أمضى فيها ثلاثة أشهر لا يخرج منها إلّا مرة واحدة في اليوم لقضاء حاجته. كما سنعرف أنه كان يتيمًا ووحيدًا توفي والده عام 1969م، وماتت أمه بعد عملية جراحية، فبقي مشردًا، ولاذَ بأخته الصغرى التي تحدب عليه وترعاه حتى الآن. يُعدّد شاكر أسماء الكُتّاب الأجانب الذين قرأ لهم أمثال شكسبير، وإليوت، وأوسكار وايلد، وهمنغوي، وتشيخوف وأدغار ألين بو وما سواهم في إشارة واضحة إلى قمع النظام السابق للمثقفين العراقيين وأصحاب العقول المتنوِّرة. أمّا جاذبية الشخص الأبكم فتكمن في قدرته الكبيرة على التعبير عن حالات التعذيب والشنق بطرقه الإيمائية المُعبِّرة. ثمة أسر لا تحتاج إلى كلام كثير لتصف بؤسها وحياتها المأساوية حيث تتكدّس أسرة من ثمانية أشخاص في غرفة واحدة بلا نوافذ، وامرأة تنجب طفلتها في دائرة الأمن، ورجل تقوده ظروف الانتفاضة الشعبانية إلى مخيم رفحاء، وحينما يعود ويتزوج لا يجد سكنًا إلّا في هذه الدائرة المليئة بالأفاعي والعقارب فيشعر بأنه أسوأ حالًا مما كان عليه في المخيّم الصحراوي المُوحش حيث هربت ابنته إلى بيت خالها في البصرة الأقل وطأة من السكن في دائرة متهدمة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. ثمة رجل يشكو من سوء معاملة بعض المسؤولين في الحكومة المحلية الذين يهددون بطرد "المتجاوزين" بالركلات إن لم يرضخوا للقانون، وآخر يستعرض الحالة المُزرية التي اضطرت امرأة لأن تجلب سعف النخيل لتصنع منه حاجزًا يفصلها عن بقية الأسر المبثوثة في أرجاء هذا المبنى المُقوّض. الأطفال بدورهم يعبّرون عن تذمرهم من انقطاع الكهرباء، وانعدام الخدمات، وعدم قدرتهم على النوم في مكان لا يصلح للعيش البشري. أمّا المحافظ الذي غضّ عنهم الطرف خلال فصل الشتاء فيطلب منهم تنفيذ القانون وإخلاء الدائرة لترميمها أو إعادة بنائها على وفق خطة الإعمار الجديدة. يختم المخرج فيلمه الذي يهزّ المشاعر بمشهد مؤلم ومُعبِّر في الوقت ذاته. فالطفلة تشكو من كَثرة البقّ، وانقطاع التيّار الكهربائي، وعدم قدرتها على النوم. بينما يصرّح طفل صغير بأنّ أسرته تمتلك طاولة وثلاجة عاطلة لم يفلحوا في إصلاحها، وحينما ينصحه المخرج بأخذها إلى المستشفى يجيب الطفل اللمّاح: "ليش هي المستشفى تصلّح ثلاجات"؟ ويبدو أن قسوة المعاناة تعوّض هذه الشخصيات المُعدَمة من الحاجة إلى التوعية التي تسرّبت إليهم منذ الولوج إلى خانة الفقر المُدقع ومعانقة الحرمان بشكل مُستديم.