دعد ديب
لا تزال قضية الحريات تتصدر واجهة المطالبات الإنسانية في كل مكان، وبالأخص الحرية الشخصية التي لا تؤذي أحداً ولا علاقة لها إلا بشخص صاحبها، هذا الأمر هو العنوان العريض للفيلم الإيراني "كعكتي المفضلة My Favourite Cake""2024 من كتابة وإخراج مريم المقدم وزوجها المخرج المشارك بهتاش صانعي، وهو الفيلم الذي حظي بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد بمهرجان برلين السينمائي، وينافس على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين
في دورته للعام الحالي.
يبدأ الفيلم بتصوير حياة البطلة الباردة "ماهين" قامت به باقتدار الممثلة الإيرانية ليلى فرهاد بور، إذ نرى في البدء مشهد دفاعها عن صبية تتعرض للتنمر والإيذاء من قبل شرطة الأخلاق، لأن حجابها لا يستوفي الشروط المطلوبة.
يحكي الفيلم قصة "ماهين" المرأة السبعينية، التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها، إذ ظلت وفية لذكراه ثلاثين عاماً، ولديها ابنة تعيش بعيداً عنها في بلد آخر، وتتواصل معها عبر الهاتف، وهي تعاني من الوحدة، رغم بيتها الجميل وحديقتها اليانعة، التي تتفنن بالعناية بها، ولم تبدد وحدتها لقاءاتها المتقطعة مع سيدات في سنها، إذ تتحدث عن الدواء والمرض والفراغ، تقترح عليها إحدى الصديقات التعرف على رجل يؤنس وحدتها، وبالفعل اقتنعت بهذه الفكرة، فتقرر دعوة سائق تكسي إلى بيتها يدعى "فرامرز" ، جسده بإتقان مميز الممثل "إسماعيل محرابي"، وهو مجند سابق شارك في الحرب العراقية الإيرانية، التي امتدت لثماني سنوات عجاف، وفرامرز الذي يقاربها بالعمر، كان يدرك عبثية الحرب التي ألقت بظلالها عليه، إذ تردت صحته البدنية والنفسية، يلبي دعوتها لتناول الشاي في منزلها، ويبدو أن عزلتها القاسية سمحت لها بتخطي التقاليد وحماة الأخلاق، الذين بيدهم القوانين ابتداءً من جارتها التي تطفلت عليها بسؤالها عمن تستقبل في بيتها، ومروراً بشرطة الآداب المدججين بالقانون السائد، وهكذا تتطور بين الكهلين الأحاديث بشكل ناعم وشفاف، وسط أجواء رومانسية بددت وحشة كل منهما، وتجاهل الآخرين لحياتهما ووجودهما، لتتطور إلى عشاء وموسيقى ورقص، واحتفاء بهذه المناسبة السعيدة، هيأت السيدة كعكة لذيذة، لتفاجئ ضيفها المدلل، لكنها تصدم بوفاته، ليتحول المشهد السعيد إلى آخر حزين، فقد مات وهما في قمة انسجامهما.
لعل في اجتماع خوفيهما، شيئاً من مؤانسة الإنسان للإنسان، وهاجس خوفه من الموت وحيداً لا يعرف به أحد، وخوفها هي أن تمر الأيام ولا تصنع كعكة لرجل تحبه، لذا نراها تضع قطعة من الكعكة في فمه قبل أن تدفنه في حديقتها وتورق زهورها فوق قبره.
فكرتان مهمتان يتناولهما فيلم "كعكتي المفضلة" : الأولى عبر سؤال ماهي حدود الحرية الشخصية للفرد؟ أهي: حريته أن يأكل ما يريد ويلبس ما يريد ويصادق من يريد ولماذا المرأة هي دائمًا تحت الوصاية؟ ولم َهي من يجب أن يتحمل التشدد الذي تفرضه المجتمعات
المنغلقة؟
والفكرة الثانية واقع تلك الفئة المسنة من البشر، التي بلغت نهاية تجربتها الحياتية وانسدت أفق التجديد لديها وتناقصت العلاقات الإنسانية ضمن محيطها، ولم يعد لديها الألق والجمال والفتوة، وتقوقعت نتيجة مجتمع ينظر بسخرية لمشاعر يعيشها مسن، ترى هل الحب والمشاعر ترتبط بسن معينة، أو بفئة المراهقين والشباب، وما يضر المجتمع أن تكون الأبواب متاحة لسعادة من قد لا يمهلهم العمر للوصول إليها، أسئلة راقية وشفافة وإنسانية يطلقها العمل تنظر في فكرة تغيير أعراف وتقاليد مسيطرة وظالمة، على الرغم من عدم وجود نص قانوني لها، ولكنها من القوة بحيث تشل سلوك بشر ما زالوا على قيد الحياة، وتمنع عنهم مسرات صغيرة هم أحوج الناس إليها، إذ تجبرهم على حياة مزدوجة واحدة في السر وأخرى في العلن، مع العلم أن إعادة صياغة مفاهيم جديدة من الصعوبة بمكان، لكونها متأصلة تغلب عليها قوة العادة من عشرات السنين، وتحتاج ثورة اجتماعية على المفاهيم
السائدة.
اختير فيلم "كعكتي المفضلة" ليكون في المركز الثاني من أفضل أفلام العام 2024 وقد حفلت جعبة مخرجي العمل بالعديد من الأفلام، منها: الفيلم الوثائقي "دبلوماسية السيد نادري" و"احتمال هطول أمطار حمضية" و" أنشودة البقرة البيضاء" و"النمل".
كما لعبت الموسيقى بتدرجها من اللحن الهادئ إلى المتراقص وصولاً للصاخب دوراً محوريًا في تدرج العلاقة بين هذين الكائنين في خريف أيامهما، ضمنها نشوة إنسانية باهرة تصاعدت تدريجيًا وأسهمت في التعبير على الأحاسيس والمشاعر التي عجز عنها
الكلام.