التدابيرُ الوقائيَّة لمكافحة الفساد

العراق 2019/07/09
...

القاضي كاظم عبد جاسم الزيدي
أصبحت ظاهرة الفساد ظاهرة عالمية وعابرة للحدود والدول ومعقدة لدرجة يصعب التعرف عليها، فقد عرفتها جميع المجتمعات وفي كل الأزمنة ولقد حاولت بعض الحكومات أنْ تحارب الفساد عبر النصوص القانونية الصارمة فقط لكنها لم تفلح ولم يقدر لها النجاح؛ لأنَّ القوانين غير قادرة بمفردها أنْ تسيطر على ظاهرة الفساد المتشعبة والمتعددة الأسباب ولأنَّ من يقومون بارتكاب جرائم الفساد الإداري والمالي يعملون في شبكات منظمة ومتداخلة ومتنفذة، فعمليات الفساد الكبرى لا يقوم بها شخص واحد بل أشخاص متعددون تختلف مناصبهم ومواقعهم الوظيفية والسياسية والاجتماعية وتتفق مصالحهم ورغباتهم ويدافعون عن هذه المصالح بشتى الطرق غير الشرعية، لذا فإنَّ النصوص والقوانين لا تعالج هذه الظاهرة بل لا بدَّ لها ان تتكامل مع وسائل أخرى في هذه المواجهة وكثيراً ما بالغت الدول والحكومات في تشكيل جهات كثيرة لمكافحة الفساد وتحت مسميات مختلفة.
إنَّ الفساد كظاهرة لا تتوقف محاربته على الجهات الحكومية الرسمية بل لا بدَّ أنْ يكون للمواطن ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص والتعاون الدولي والاتفاقيات الدولية والإقليمية ولا بدَّ من تشخيص هذه الظاهرة الخطيرة بكل تفاصيلها مع تحديد الأسباب الرئيسة لها ومتابعتها وآثارها الخطيرة على كل مجالات الحياة ولا بدَّ من اتخاذ آليات وتدابير وإجراءات تنقل النصوص إلى حيز التنفيذ لكي يتسنى للجهات المختصة مواجهة هذه الظاهرة وتعالجها من جذورها وتقف على أسبابها وتحاصر هذه الجرائم وتمنع
 انتشارها. 
وقد نصت الاتفاقيات الدولية على مجموعة من التدابير الوقائية في سبيل مواجهة الفساد ومنها وضع ستراتيجية تمثل خارطة طريق لمكافحة الفساد عبر تشخيص الظواهر السلبية وتحديد أسباب حدوثها والتدابير اللازمة للوقاية منها ومعالجتها وتحديد مهام الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد بإشراك السلطات الثلاث ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والخبراء. وقد نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 على أنْ “تقوم الدول الأطراف في الاتفاقية بوضع ستراتيجية شاملة لمواجهة جرائم الفساد وفقاً للمبادئ الأساسية لنظمها القانونية وتعزيز مشاركة المجتمع المدني والقطاع الخاص وتجسيد مبدأ سيادة القانون والحكم الرشيد عن طريق النزاهة 
والشفافية والمساءلة)، وإنَّ عملية الوقاية من الفساد ليست شأناً خاصاً بمؤسسات الدولة أو القطاع العام فقط، لأنَّ الفساد ليس ظاهرة حكومية فقط بل انه ظاهرة عامة تتواجد في جميع قطاعات الدولة خصوصا بعد انتشار الجرائم الدولية مثل غسيل الأموال والمخدرات والاتجار بالسلاح. باتت هناك حاجة إلى تعاون دولي وإطار قانوني لمواجهة هذه الظاهرة، إذ نصت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد على عدة تدابير لمكافحة الفساد في القطاع الخاص منها التعاون بين الأجهزة الخاصة بمكافحة الفساد والقطاع الخاص ووضع معايير النزاهة داخل القطاع الخاص وضبط مراجعة الحسابات ومسك الدفاتر والسجلات لمنع تسجيل نفقات وهمية، كما أنَّ لمنظمات المجتمع المدني دوراً مهماً في مكافحة الفساد، إذ يتم بناء قدرات المجتمع المدني للمساعدة والانخراط في ستراتيجية مكافحة الفساد وذلك بإنشاء بيئة مشجعة للناس وتمكينهم وتشجيعهم على المشاركة الفعالة بجميع الوسائل، وقد نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على مشاركة المجتمع في عملية مكافحة الفساد وذلك بتشجيع أفراد وجماعات من المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية على المشاركة في منع الفساد ومحاربته حين تنهض بدورها في تثقيف الناس في ما يتعلق بظاهرة الفساد وأسبابها وجسامتها وخطرها. ويتحقق ذلك بتعزيز الشفافية في عملية اتخاذ القرارات وإشراك الناس فيها مع ضمان اطلاع الناس على المعلومات الصحيحة والقيام بفعاليات إعلامية تسهم في عدم التسامح مع الفساد في جميع مجالات الحياة وخاصة في المناهج الدراسية والجامعية. ويجب تعزيز حرية الحصول على المعلومة خاصة تلك التي تتعلق بالفساد وتعريف الناس بالهيئات العاملة في مجال مكافحة الفساد ومنها هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية والمجلس الأعلى لمكافحة الفساد ودور القضاء في مكافحة الفساد وتسهيل سبل الاتصال للإبلاغ عن حالات الفساد من دون كشف هوياتهم. ويجب أنْ يكون لمنظمات المجتمع المدني دورٌ بارزٌ في ممارسة الضغط على الجهات الرسمية للالتزام بمعايير الشفافية والنزاهة والقيام بحملات لتوعية المواطنين 
بمكافحة الفساد.
إنَّ تحطيم ثقافة الفساد يبدأ عن طريق زعزعة مناخ الثقة المتبادلة بين الذين يقومون بالفساد ووسائطهم حينها تتحول ثقافة محاربة الفساد من مجرد كلام إلى عمل فعلي صائب وإنَّ وجود هيئات مختصة بمكافحة الفساد الإداري والمالي من الآليات والتدابير الحديثة في مكافحة الفساد. ولقد نصت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد على “ضرورة وجود هيئات وقائية تتولى منع الفساد تتمتع بالاستقلالية وتتوفر لها الموارد لتتمكن من القيام بعملها في 
مكافحة الفساد”.
كما أن للقضاء دوراً بارزاً وفاعلاً في منع الفساد؛ فهو يملك الحكم النهائي و على الجرائم، فبقدر ما تطمع الأجهزة القضائية بالاستقلالية بعدم تأثرها بالحالة السياسية في مؤسسات الدولة تكون قادرة على مواجهة الفساد وبسط سلطتها على جميع مواطن الفساد في الدولة لتردع بها كل من ينوي الاعتداء على المال العام أو أنْ يرتكب جريمة من جرائم الفساد. وقد عمل القضاء العراقي على محاربة الفساد من خلال تشكيل محكمة مختصة للنظر بقضايا النزاهة تختص بالتحقيق في جرائم الفساد الإداري والمالي ومحاكم الجنح وجنايات
 النزاهة.
إنَّ ظاهرة الفساد منظومة متكاملة ومترابطة لها جذورها وأسبابها وآثارها تتفاعل أجزاء ومكونات هذه الظاهرة مع بعضها البعض ولا يمكن ان نتناول جزءاً من هذه الظاهرة من دون الآخر وإنَّ معالجة التشريعات الوطنية لجرائم الفساد كانت قاصرة على الجانب العقابي، أي تحديد الجريمة وعقابها ولم تتناول الجانب الوقائي والتدابير الوقائية لمكافحة الفساد كما فعلت الاتفاقيات الدولية والإقليمية، وإن معالجة آثار جرائم الفساد من اختلاس ورشوة واستغلال للنفوذ الوظيفي وغيرها من جرائم الفساد الإداري والمالي دون الوقوف على الأسباب الحقيقية لارتكاب هذه الجرائم لا تجدي نفعاً ولا تتحقق الغاية المرجوة من مكافحة الفساد وإنَّ تشخيص أسباب ومنابع هذه الجرائم هو الخطوة الأولى الأهم نحو معالجتها بشكل صحيح وفعال، وإنَّ هناك عوامل خارجية تؤثر تأثيراً سلبياً أو إيجابياً في عملية مواجهة الفساد منها ثقافة المجتمع والإرادة السياسية والشفافية والإصلاح الإداري والوازع الديني لدى الأفراد، فكلما كانت هذه العوامل فعالة وراسخة في المجتمع كانت عملية مكافحة الفساد فعالة ومؤثرة. وإنَّ نجاح الهيئات المختصة بمكافحة الفساد يحتاج إلى الاستقلالية المالية والإدارية بما يمكنها من القيام بواجبها من دون التعرض للضغوط السياسية وهي تحتاج إلى انْ تكون هناك إرادة سياسية للتعاون في
 مكافحة الفساد.
إنَّ مواجهة ظاهرة الفساد تحتاج أن تكون المواجهة شاملة ومتكاملة في جميع النواحي وعلى جميع المستويات والأصعدة؛ أي اعتماد ستراتيجية شاملة وبعيدة المدى لمواجهة جرائم الفساد أي ان تعالج الأسباب والأعراض لهذة الظاهرة وأنْ يكون لمنظمات المجتمع المدني دورٌ في التعاون في مكافحة الفساد من خلال توعية المواطن بثقافة مكافحة الفساد وتشجيع المواطن على الإبلاغ عن حالات الفساد وضمان عدم تعرضه للمساءلة القانونية أو العشائرية وتشجيع الإخبار عن طريق الخط الساخن الخاص بتلقي الأخبار عن قضايا الفساد وأنْ تكون المواجهة للفساد لها خصوصيتها الوطنية والجغرافية أي عدم الاعتماد على الستراتيجيات المعمول بها في دول أخرى فلكل مجتمع من المجتمعات طبيعة وخصوصية لأنه تتغير أسباب وآثار الفساد من بيئة لأخرى وتعزيز ثقافة الحرص على
 المال العام.